الناقد الدكتور أيمن بكر رغم صرامته فهو حميمٌ لا تُملُّ مُجالستُه و لا تُمَلُّ آراؤه الشاخصة في كل حديثٍ عابرٍ أو محاورةٍ أو دردشة، مايزال في حالة نبشٍ دؤوب لضمير الكائن العربي الموجع، كما أنه يُقلّ.بُ الخيبة كل حينٍ،إذ انه منغمسٌ في التنظير لقصيدة النثر العربية وتأصيل أبجدياتها، وفي حوارنا معه يتضح عُمق ميوله وصلابة هويته أيضا، إذ يقول «أحاول أن أكون منفتحا قدر الممكن على استقبال ما تحاول الرواية تقديمه من انحرافات جمالية أو بنائية ....». هل أحدثت قصيدة النثر قطيعة مع التراث، مع كل ما يحمل هذا التراث من تعميق لقيمة الإيقاع القائم في نظرية عمود الشعر؟ ** يجب أن نحذر من اختصار تراث الشعر العربي في الإيقاع الخليلي، حتى إن كان هذا الاختصار ضمنيا، إذ نكون بذلك قد وقعنا - ربما دون أن نعي- في اتفاق مع من يختزل الشعر بوصفه الإيقاع أولا وأخيرا، ثم يرفض بناء على هذا الاختزال قصيدة النثر وغيرها من محاولات التجريب. تراث الشعر محمل بكثير من الرؤى الثقافية وفنيات التصوير الشعري، إضافة إلى وجود منطق للتعامل مع بنيات اللغة.ولا أحسب أن قصيدة النثر صنعت قطيعة مع هذا التراث؛ بل ربما كانت على العكس وفية له في العمق أكثر من اللازم.ألا ترى أن الجميع تقريبا لا يخرج عن منطق تركيب الجملة العربية أو تركيب الصورة؟ ثم أليس الاهتمام بالذاتية والتفاصيل الشخصية في قصيدة النثر هو امتداد لغنائية القصيدة العربية؟ يبدو لي أن قصيدة النثر هي إحدى تنويعات القصيدة العربية القائمة على تراث الشعر العربي. شهدت الستينات من القرن المنصرم ثورتين حقيقيتين في الشعر العربي «شعر التفعيلة» و«شعر قصيدة النثر»، فهل شكل هذا التزامن في الثورة قوة لهما؟ ** كان من الممكن أن يشكل التزامن مخرجا حقيقيا من حالة الأحادية الفنية والفكرية التي أظنها هي الوجه الآخر للأحادية السياسية المميزة للثقافة العربية. لقد مثلت قصيدة التفعيلة ألما موجعا للفكر الأحادي في الفن؛ خاصة أنها تمس النوع المركزي المميز للثقافة، فحين انطرحت على الساحة الأدبية فكرة تجاور الأشكال الشعرية، كان من الممكن أن يتم تعميق هذه الفكرة وتجذيرها عبر الاعتراف المتبادل بين شعراء التفعيلة وشعراء قصيدة النثر الذين ظهروا تقريبا في الوقت نفسه، وتأكيد حق كل منهما في الوجود والاختلاف في تصور الشعر وممارسته. لكن أحسب أن آفة الأحادية ونفي الآخر المغاير سيطرت على تيار التفعيلة؛ فنجد من كان منفيا بالأمس القريب جدا يقوم اليوم بنفي الآخر باستخدام الآلية نفسها.لقد تم امتصاص الانحراف الثقافي الخلاق الذي صاحب قصيدة التفعيلة من قبل البنية الثقافية الأحادية، ولم يحدث التكاتف الذي تقصده بين التيارين. إلى أي مدى أثرت تنظيرات السيدة سوزان برنار في القصيدة النثرية العربية؟ ** ما زلت أفكر في الأمر، وفي هذه اللحظة أحسب أن تأثير السيدة برنار كان مرتبطا بجيل الرواد الذي تبنى مقولاتها الثلاث الشهيرة (المجانية – الكثافة – إرادة البناء)، كما كان هذا التأثير لفترة محدودة يمثلها بوضوح ديوان «لن» لأنسي الحاج الذي يشبه مثالا توضيحيا لأفكار برنار السابقة، بعدها تم إفراز معايير أخرى تتصل بقصيدة النثر العربية تدريجيا، أجيال الشباب الآن لا يتحركون من مقولات برنار، كما يمكن إذا تأملنا ما يكتبه أدونيس حاليا من قصائد أن نرى أنه يلعب دور الكاهن صاحب الرسالة النبوية تماما كما كان يؤخذ على رواد التفعيلة. * يذهب الناقد حاتم الصكر بأن رواد قصيدة النثر العربية شوهوا أطروحة سوزان برنار وابتسروها نتيجة لحماستهم، هل أدى هذا التشويه إلى عدم الخلق لقصيدة مختلفة عن محيطها؟ ** لا يمكن في نظري أن تستخدم فكرة لامعة بعمق دون أن تشوهها، خاصة إذا كانت مترجمة؛ أنت تدخل الفكرة في إطار مفاعل إنساني فكري ثقافي مغاير، فمسألة التشويه حتمية إذا كان الاستخدام أصيلا ومبدعا، لكن يمكننا أن نتخير تعبيرا يبرز الوجه الإيجابي لانتقال الفكرة وتغير حدودها ومخرجاتها؛ إذ يمكننا أن نقول إعادة الإنتاج بدلا من التشويه. وأظن أن أهمية سوزان برنار الحقيقية كانت في منح الغطاء الفكري التنظيري لتوق وطموح إبداعي لدى مجموعة من الشعراء في فترة توهجهم. لقد قدمت برنار أفكارا تتصل في العمق بالثقافة الفرنسية؛ إذ تحلل التقاليد القائمة داخل نصوص منجزة؛ وتستخلص منها بعض القوانين، إنها تبدأ من تراث منجز باتجاه التنظير. ما الملامح التي تشير إلى وعي يدعم التجديد في القصيدة العربية؟ ** كل ما هو خروج عن التقاليد بعد استيعابها بعمق هو تجديد يجب أن ينظر إليه باحترام وبطريقة تحليلية قبل أن نرفضه أو نقبله، لغة الشعر لدينا ما زالت تشير إلى ذاتها وإلى عوالمها التخييلية أكثر مما تشير إلى العالم المادي، هناك تجارب تحاول اكتشاف الشعر في العالم؛ في كل شيء محيط بنا، إذ أحسب أن الشعرية هي مسألة كيف ننظر للأمور وليست كامنة في الأشياء.ليس الأمر ببساطة اكتشاف الشعر في العالم وإنما هو أقرب لتخليقه عبر العالم. هنا ألاحظ أن معظم محاولات الشعراء سواء التفعيليين أو شعراء قصيدة النثر تتحرك في آفاق تجريب محدودة على مستوى الشكل، بمعنى أن حالات التفاعل التي شهدتها ثقافات كثيرة بين اللغوي الألف بائي والفني التصويري أو الموسيقي ما زالت تحبو في الثقافة العربية، أفكار التجديد أو التجريب عندنا تستهلك في البحث عن منحوتات تصويرية جديدة في إطار اللغة الألف بائية، ويبدو لي أننا نؤمن – كثقافة - بشمولية اللغة وقدرتها على استيعاب كل شيء، وكذلك بقدرتها على الفعل في العالم، وكأنه بقايا الإيمان القديم لدى الشعوب الشفوية بالقدرات السحرية للغة. كيف تجد قصيدة النثر العامية، هذه التي تشعر القارئ بالألفة وتدخل الموروث الشعبي بقوة وتساير يوميات الإنسان بجمال وعمق، إلى أين تمضي؟ ** رغم أن قصيدة النثر العامية تحاول امتصاص موروث الشعوب وتسعى للإقتراب بصورة جمالية من واقع الثقافات كما نراها ونخبرها في حياتنا اليومية، فإن قصيدة النثر العامية تعاني من مشكلة تشبه ما قابل رواد قصيدة العامية الموزونة، فقد ظل فؤاد حداد في الظل لفترة طويلة، وتم النظر لما يكتبه بيرم التونسي بوصفه خطرا على الفصحى لفترة طويلة، ثم بدأنا نعيد النظر في فكرة التراتبية القيمية بين الفصحى والعامية، لنكتشف أن فؤاد حداد مثلا هامة شعرية كبيرة يمكن أن تقارن بالمتنبي.الآن قصيدة نثر العامية تشهد تراجعات ممن كانوا يكتبونها بحماس في فترة فورانهم الإبداعي، ويبدو لي أن هذا الأمر يمثل خضوعا-بصورة أو بأخرى- لسياسات الثقافة التي تموضع كل مبدع داخلها طبقا لخارطة تقييمية صلبة، وأحسب أن قصيدة النثر العامية ما زالت بحاجة لإثبات وجود وحفر مكان داخل سياق ثقافي يحاول نفيها وإنكار انتمائها للشعر. هل استطاع الشعر العامي تحديدا أن يجعل نفسه من ضرورات الحياة لدى الإنسان العربي كما كان الشعر مهما في العصور الأولى للعرب؟ ** لا الشاعر ولا أي مبدع آخر يمكنه أن يصنع من إبداعه زادا يوميا للمواطن العربي المنذهل عن ذاته؛ هناك حالة من الانفصال عن عناصر القيمة الجمالية بوصفها أمرا زائدا عن الحاجة ويعبر عن رفاهية لا تسمح بها الحياة. كل ما سبق يقود إلى حالة من تسطح الإحساس بالوجود وغياب للبوصلة التي يمكنها أن تحدد اتجاه القيم الأولى بالرعاية لدى الإنسان. وأحسب أن ارتفاع قيمة المنتجات الجمالية مرتبط بوجود نهضة ثقافية شاملة . ترى لم البعض مسكون بموت الأشياء؟ لم لا ندع القصيدة تتنفس وتأخذ شكلها الذي تولد به؟ لم يفاجئنا ناقد كل يوم ليعلن موت القصيدة العمودية وآخر يرثي التفعيلة، ثم يترحمون على قصيدة النثر؟! بعدها يقذف الشعراء باتهامات سخيفة بالعمالة والخيانة؟ لم لا نراهن على الإبداع والخلق في القصيدة بدل الجدل الذي لا طائل منه؟! ** التعدد مؤلم للفكر الأحادي، كما أنه يهدد أفكار الاستقرار والأمان لدى من يتلبسهم هذا الفكر.من هنا يقف أصحاب الفكر الأحادي أمام حركة التطور المحتومة دون أدنى قدرة على مراجعة الذات أو الإفادة من دروس التاريخ؛ وكأني بنا في العصر العباسي حين سأل البعض أبا تمام: لماذا لا تقول ما يفهم؟ فأجاب الشاعر:ولماذا لا تفهم ما يقال.إنه رد ذكي جدا يرد السائل إلى عجزه الذي يتم إلقاؤه على المبدع؛ يقول أبو تمام إني أكتب ضمن قوانين اللغة وطبقا لقواعد التركيب فيها، واستنادا لتراث النوع فلماذا لا توسع قدرات الاستقبال لديك أيها القارئ.المدهش والمزعج في آن، هو أن أكثر القراء ضيق الأفق والسطحية يحاول أن يلعب دور المعيار الفني والثقافي، ويطالب المبدع أن يلتزم بضيق أفقه وأن يخضع لتسلطية ذوقه السطحي. هذا الوضع لا يتصل بالأدب فقط، بل لعله سمة ثقافية تسود في فترات الضعف الحضاري والتراجع عن المشاركة في صنع ثقافة الإنسان بصورة خلاقة؛ ونحن ثقافة تعرف جيدا أنها ضعيفة، وكلما أوغل المفكر أو الشاعر في العمر انكشفت له مساحات الوهن الذي ورثها من ثقافته دون أن يدري، فنراه يقف أمام توهجاته القديمة منكرا إياها كمن يتبرأ من فترات القوة والجرأة لديه.إنه ملمح يعبر عن وهن وضعف، كما يعبر عن فزع عميق من أي جديد؛ إذ يتساوى الجديد- مع وعيك بمدى ضعفك- مع المجهول المخيف المهدد للحياة. * ما الذي ميّز تجربة عفيفي مطر عن غيرها؟ هل هو وعي ذات الشاعر وثقافته؟ أم وعيه بالتراث وتورطه العميق في اللحظة التاريخية المعاصرة؟ ** تجربة عفيفي مطر بشهادة عدد من الشعراء هي تجربة عابرة للأجيال، عفيفي تقريبا بدأ النشر مع بدايات حركة شعر التفعيلة، وتطورت تجربته عبر عدة مراحل، واكبت كل مرحلة منها طرحا جماليا جديدا في القصيدة العربية.عفيفي في ظني من أكثر الشعراء العرب (إن لم يكن أكثرهم على الإطلاق) إخلاصا للشعر دون سواه، هو مهموم بقصيدته 24 ساعة في اليوم. لذلك يجب أن نحاول استيعاب تجربة مطر من داخلها: كيف تتحرك لغته من مساحة لأخرى؟ كيف تتشكل رؤاه للعالم؟ وكيف تعبر هذه الرؤى عن حركة وعيه الإبداعي؟ عفيفي مطر تجربة أحسب أنها لم تقرأ بصورة تحليلية عميقة حتى الآن إلا فيما ندر.