مرت التظاهرات المليونية، الأكبر في الذاكرة المصرية، بسلام من دون احتكاكات بين المتظاهرين والجيش الذي اكتفى بتطويقهم لحمايتهم، فيما بدأت تحركات دولية للترتيب لمرحلة ما بعد الرئيس حسني مبارك. وعكست التظاهرة المليونية في ميدان التحرير في قلب القاهرة أمس أن طرفي الأزمة يتحركان في شكل معاكس: الشارع بسرعته والنظام ببطئه، فتظاهرة المليون في ميدان التحرير، وربما تظاهرات ملايين أخرى في المحافظات، هي تجمع حاشد لم يسبق له مثيل رفع سقف المطالب مع النجاح في جمع أعداد غفيرة من المتظاهرين. في المقابل، اكتفى النظام بعرض الحوار على المعارضة، يمثله فيه نائب الرئيس عمر سليمان بتكليف من مبارك، من دون تحديد ملامح هذا الحوار والموضوعات المطروحة على طاولته والأطراف المدعوة له ومتى يبدأ، وهي دعوة أعلنت جماعة «الإخوان المسلمين» رفضها لها، فيما أكد المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي عدم الاتصال به لمناقشة هذا الأمر، بل إن النظام لم يتصل حتى مساء أمس بمعارضين قريبين منه مثل رئيس حزب «التجمع» الدكتور رفعت السعيد. غير أن التحركات الدولية تجاوزت مبادرات النظام، إذ ناقشت الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي مع البرادعي السيناريوات المقبولة في حال قبول مبارك المطالبات بتنحيه. وأعلن البيت الأبيض أمس أن السفيرة الأميركية في القاهرة مارغريت سكوبي اتصلت بالبرادعي. ونقلت وكالة «فرانس برس» عن مصادر سياسية مصرية موثوقة أن البرادعي تلقى اتصالات هاتفية من مسؤولين وديبلوماسيين من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي لاستطلاع رأيه في مرحلة «ما بعد مبارك». وجاء هذا التطور بعدما غادر القاهرة المبعوث الرئاسي الأميركي الذي أوفده البيت الأبيض، اثر زيارة قصيرة التقى خلالها مسؤولين مصريين، يُرجح أن بينهم الرئيس مبارك. وأكدت المصادر أن «رئيس الوزراء اليوناني جورج باباندريو والسفيرة الأميركية ونظيرها البريطاني دومينيك اسكويث اتصلوا هاتفياً بالبرادعي للاستفسار منه عن رؤيته لكيفية انتقال السلطة إذا وافق الرئيس المصري على التخلي عنها». وأشارت إلى أن «البرادعي عرض اقتراحين، الأول هو تشكيل مجلس رئاسي موقت مكوّن من ثلاثة أشخاص، أحدهما عسكري والاثنان الآخران مدنيان، والاقتراح الثاني هو أن يصبح اللواء عمر سليمان رئيساً موقتاً، ربما بتفويض من مبارك، خلال فترة انتقالية تشهد حل مجلسي الشعب والشورى وإعداد دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية حرة بعد إقرار هذا الدستور». وأوضحت أن «البرادعي يميل الى الخيار الثاني». «مرحلة ما بعد مبارك» كانت أيضاً عنوان النقاشات الجانبية بين المتظاهرين الذي ضاق بهم ميدان التحرير، لدرجة أن الآليات العسكرية التي كانت تلف الميدان من بعيد لتأمين المتظاهرين باتت متمركزة وسط الجماهير ما أجبرها على التراجع من أجل إفراغ مساحات أكبر للأعداد الغفيرة التي ظلت تتوافد على الميدان طوال نهار أمس. التجمع بدا أكثر تنظيماً. شبان مسؤولون عن تنظيف الميدان وجمع القمامة وآخرون يهتفون في الجماهير لتجميع المواد المصورة للتجاوزات والانتهاكات التي ارتكبتها الشرطة في «جمعة الغضب» ل «توثيق جرائم النظام». متظاهرون يعلقون دمى مشنوقة في إشارات المرور لرموز النظام، فيما ظهرت اللافتات الكبيرة المنمقة المطبوعة بالليزر بعدما غلبت في الأيام الماضية اللافتات الورقية التي يكتبها الغاضبون بأيديهم. غالبية اللافتات لا تحمل شعارات تدل على انتماءات سياسية محددة وإحداها كتب عليها «أنا مش إخوان لكن مبارك هو المحظور»، في إشارة إلى التسمية التي ظل النظام يطلقها على الجماعة باعتبارها «محظورة». الكل يرفع اللافتات المطالبة برحيل مبارك والخلاف يدور حول قيادة سليمان المرحلة المقبلة. فأمام لافتة توسطت الميدان مكتوب عليها «لا مبارك ولا سليمان»، يقف شباب يتجادلون منهم من يؤيد تولي سليمان الرئاسة في فترة انتقالية لحين تعديل الدستور وإجراء انتخابات تعددية حرة، لكن آخرين يرفضون على اعتبار أن سليمان من أركان النظام. وفي المشهد لافتات مرفوعة تطرح أسماء بعض القيادات العسكرية السابقة والحالية. التجمع الحاشد جعل الكل يدرك أن رحيل الرئيس بات واقعاً، فانشغلوا بترتيبات المرحلة المقبلة. وبدا أن هذا التجمع أغرى قوى المعارضة لرفع سقفها، ف «الإخوان» الذين طالما طلبوا الحوار مع النظام لمناقشة هموم الوطن، أعلنوا أمس رفض التفاوض مع النظام «الذي فقد شرعيته برئيسه وبرلمانه وحزبه وحكومته»، وكذلك رفض كل الإجراءات التي اتخذها منذ بدء «الانتفاضة الشعبية». وطلبت في بيان «إعلان تنحية الرئيس وإنهاء الوجود القانوني لمجلسي الشعب والشورى، وأن يتولى رئيس المحكمة الدستورية العليا مهمات رئيس الجمهورية، وإلغاء حالة الطوارئ والعفو العام عن العقوبات الأصلية والتكميلية التي أعقبت كل المحاكم الاستثنائية للسياسيين وإطلاق جميع المحبوسين بأحكام استثنائية بسبب آرائهم ومواقفهم السياسية». واقترحت تشكيل «حكومة وحدة وطنية انتقالية لتسيير شؤون البلاد، وإجراء انتخابات برلمانية حرة ونزيهة تحت اشراف قضائي كامل، على أن يقوم البرلمان المنتخب بإجراء التعديلات الدستورية اللازمة لإجراء انتخابات رئاسية عامة حرة مباشرة». أما أحزاب المعارضة، فلم تحدد رؤيتها للمرحلة المقبلة بانتظار النتيجة التي ستسفر عنها «معركة النفس الطويل» بين النظام والمتظاهرين، واكتفت فقط بتأكيد ضرورة التغيير وأن «جمعة الرحيل» ستكون حاسمة. ولم تتلق هي الأخرى دعوة لبدء الحوار المفترض بحسب رئيس حزب التجمع الذي قال ل «الحياة» إن «الحوار في حاجة إلى ترتيبات». اللافت أن الحكومة الجديدة أطل رئيسها الفريق أحمد شفيق ووزراؤها على شاشات التلفزيون الرسمي مبشرين بضبط السياسات ومراجعة أخطاء المرحلة السابقة، وفاتهم أن المتظاهرين لا يلتفتون أصلاً لمثل هذه التصريحات. وفي الخلفية، مواقف بدت واضحة وأخرى تمسك العصا من منتصفها. فالبرادعي الذي بدا واضحاً في مطالبته برحيل النظام لم يحسم أمر استعداده لتولي المسؤولية في المرحلة المقبلة بانتظار «كلمة الشارع». والأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى لا يطلب رحيل مبارك، لكنه ترك الأمر «رهن الحوار»، وهو الآخر «مستعد لخدمة البلاد في أي منصب يكلفه الشعب به». واجتمعت أحزاب وقوى معارضة أمس في مقر حزب «الوفد» واتفقت على رفض الحوار مع النظام من دون قبول السلطة بمطالب كانت المعارضة حددتها قبل يومين، وهي «رحيل مبارك بعد سقوط شرعيته، وتدشين حكومة انتقالية، وحل البرلمان بغرفتيه (الشعب والشورى) ومحاكمة المسؤول عن الأحداث الدموية التي شهدتها جمعه الغضب». وأفيد أن الاجتماع ضم ممثلين عن «الوفد» و «التجمع» و «العربي الناصري» وعدد من الحركات الاحتجاجية في مقدمتها شباب «6 أبريل» و «الجمعية الوطنية للتغيير» و «الإخوان». وأكد المجتمعون في بيان رفضهم إجراء أي حوار مع النظام إلا قبل الموافقة على المطالب السابقة على أن يكون الحوار في شأن آلية التنفيذ. أما البرادعي، فيضع نصب عينيه «رحيل مبارك حقناً للدماء ولبدء مرحلة جديدة»، وهو أكد أن لا طموح شخصياً لديه في أي منصب لكنه فقط يتطلع لأن تلحق مصر بركب الحضارة. الرجل الذي يشدد على أنه لم يأت «لركوب موجة الاحتجاجات» لا يمانع في القيام بدور إن طلب منه «فهو لن يخذل الشعب». وعمرو موسى يشدد على ضرورة «وضع مصلحة مصر فوق مصالح النظام وكل الأطراف»، وهو يرى أن «التغيير هو شعار هذه المرحلة، فالعودة إلى ما قبل 25 كانون الثاني (يناير) أمر غير مطروح»، لكنه يؤكد أن «مطلب تنحية مبارك وأي مطلب آخر يجب أن يكون محل الحوار المقبل». والرجل الذي لا يمكن أن يدعي الزعامة مستعد لخدمة بلده «في أي منصب أو موقع، إذا طُلب منه أو كلف به». ودعت خمسون منظمة حقوقية مصرية في بيان مشترك أمس الرئيس مبارك إلى «الانسحاب حقناً لدماء المصريين». وطالبت «بإصدار دستور جديد للبلاد من خلال جمعية وطنية مشكلة من ممثلي الأحزاب والقوى السياسية والمجتمع المدني». وفي سعي حثيث، للحصول على «تأشيرة مرور»، دعا رئيس الحكومة الجديدة الشباب إلى منح حكومته «الفرصة»، مؤكداً أنها بصدد إعادة النظر في ما هو قائم من سياسات سابقة. وتحدث شفيق أمس عن أولويات لحكومته منها «إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه، وإعادة النظر في كل المواقف السياسية والدستورية والتشريعية، بما يلائم ظروفنا الحالية»، منتقداً «زواج السلطة برأس المال»، فنتائج مشاركة رجال الأعمال في الحياة السياسية كانت «مخيبة للآمال»، معتبراً أن «التجربة أثبتت أن تفرغ رجال الأعمال لأعمالهم الخاصة فيه مصلحة أكبر للاقتصاد الوطني». ولم يستبعد شفيق إجراء حوارات مع القوى الوطنية في شأن السياسات التي تنتهجها حكومته. وقال: «سنستمع إلى كل الآراء ونتفاعل معها، وكل ما تتفق عليه الغالبية العظمى سنستجيب له». ميدانياً، ساد هدوء نسبي الشارع المصري في ظل انتشار اللجان الشعبية التي مازالت تتولى مسؤولية تأمين مناطقها، فيما الحياة العامة مصابة بالشلل التام. فالمؤسسات ما زالت مقفلة وبدأت بعض السلع الغذائية تنفد وأخرى تضاعفت أسعارها. وتمكنت مجموعات من الشرطة من إعادة عدد من سيارات الشرطة والإسعاف وتماثيل أثرية سرقت من القاهرة والجيزة والإسكندرية. وتواصل توقيف السجناء الفارين. وبث التلفزيون المصري لقطات لوزير الداخلية الجديد محمود وجدي يتفقد الحالة الأمنية في شوارع بعض أحياء القاهرة وسط الجماهير، فيما أكد مصدر أمني أن «عناصر إجرامية» تسعى إلى «إحداث فتنة» في الشارع ومحاولة «زرع بذور العداء بين الجيش والشعب»، مهيباً بالمواطنين توقيف هذه العناصر، فيما حذرت القوات المسلحة أي شخص لا ينتمي إليها من ارتداء الزي العسكري بعد «سرقة عدد من المحال التي تبيع الزي العسكري». وناشدت في منشورات وزعت على المواطنين الحفاظ على الأمن. وبعد إغلاق الطرق بين المدن للحيلولة دون انتقال متظاهرين في المحافظات إلى وسط القاهرة، تجمع مئات الآلاف في ميادين عواصم المحافظات في تظاهرات متزامنة في الإسكندرية والسويس وعشرات الآلاف في الغربيةوالعريش والمنوفية ومحافظات أخرى. وفي سيناء، أوقفت اللجان الشعبية في محافظة العريش (شمال سيناء) 4 فلسطينيين بحوزتهم كميات من المتفجرات. وقالت مصادر مطلعة إن «اللجان الشعبية اشتبهت في سيارة، فتم توقيفها وتفتيش من فيها فوجد أن في داخلها كميات من المتفجرات وأن مستقليها 4 فلسطينيين». وأشارت إلى أن المعتقلين «تم احتجازهم لفترة حتى تسلمتهم قوات الجيش».