لا بد منذ البداية هنا من التساؤل بدهشة عما دفع سينمائياً كوميدياً ايطالياً هو فيتوريو دي سيكا عرف - فيما عدا فيلمه الكبير المؤسس للواقعية الجديدة «سارقو الدراجة» – بأدوار هزلية مثلها وأفلام شعبية حققها، الى اختيار هذه المسرحية للكاتب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر ليحولها فيلماً حقق في حينه نجاحاً لكنه لم يتمكن من ان يخدم المسرحية أو يضاهيها بأي حال من الأحوال. ولعل ما يضيف من أهمية هذا التساؤل ان المسرحية حين عرضت في فرنسا للمرة الأولى أوائل سنوات الستين من القرن العشرين، فهمت على الفور في ارتباطها الرمزي بالحرب الجزائرية التي كانت فرنسا تعيش تحت وطأتها في ذلك الحين. أما الفيلم نفسه فلم يقرأ الا على مستواه الأول كعمل عن عذابات وندم ضابط سابق في الجيش النازي. ولقد زاد في الطين بلة يومها ان الفيلم ركز على بعد ثانويّ في النص الأصلي ليبرزه في واجهة الأحداث وهو البعد المتعلق بشخصية اليهودي بحيث راح الفيلم يبدو وكأنه عمل إضافي عن المحرقة، وهو لم يكن كذلك في عمق أعماقه. مهما يكن من أمر من المفيد ان نترك هنا حديث الفيلم لنركز على المسرحية نفسها كما كتبها سارتر وقدّمت، مع إشارة ضرورية الى أننا نستخدم هنا العنوان الذي صدرت فيه المسرحية حين ترجمت الى العربية مع انه عنوان غير دقيق. فالحقيقة ان ليس ثمة «أسرى» في المسرحية بل هناك شخص «صادر» نفسه مختبئاً في غرفة معزولة في منزل العائلة مصادراً معه بقية أفراد هذه العائلة... رمزياً. وهذا الشخص هو الضابط في الجيش النازي فرانتز الذي اذ انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة مدوية ومذلة لألمانيا النازية آثر أن ينعزل في تلك الغرفة غير متصّل بالآخرين إلا من طريق أخته ليني التي لا يسمح لأحد غيرها بدخول الغرفة والتحدث اليه. ان الخوف من الاعتقال والمحاكمة ليس الدافع الوحيد الذي يجعل فرانتز مقيماً في عزلته هذه. وهذا أمر سنفهمه في مجرى المسرحية ذات الفصول الخمسة. ذلك ان ثمة العديد من العوامل تشتغل في ذهن فرانتز منها الندم والخوف والحزن على مصير الوطن ومثله العليا. ولسوف نكتشف لاحقاً بعداً اضافياً سيتحوّل بالتدريج الى البعد الأساس. ولكن قبل الوصول الى هذا البعد تواصل المسرحية استعراض الشخصيات والعلاقات في ما بينها من دون ان تبارح وجود فرانتز بوصفه محور هذه العلاقات. هناك أولاً الى ليني (التي لتمسكها بأخيها وحرصها على إبقائه في عزلته ملكاً لها لا يشاركها فيه احد، تقنعه دائماً بأن المانيا لم تنهض من عثرتها وان الأعداء لا يزالون يواصلون تدميرها على رغم انقضاء ما يقارب نصف العقد على انتهاء الحرب، فنحن الآن في العام 1959 وألمانيا تعرف الآن فورة اقتصادية تتزامن مع إحساس الغالبية العظمى من الألمان ولو شكلياً بأن الحرب صارت وراءهم)، اذاً هناك الى ليني، الأب الذي يملك ترسانة لبناء السفن في هامبورغ وبات متحرقاً اليوم، إذ أصيب بسرطان قاتل، الى لقاء ابنه فرانتز بواسطة ليني. لكن هذه لا تشجع فرانتز على قبول اللقاء كما ان هذا الأخير نفسه لا يريده... اول الأمر على الأقل. ثم هناك جوهانا زوجة شقيق فرانتز فرنر المتعلقة هي الأخرى بفرانتز والتي سيتمكن الأب من اللقاء بابنه أخيراً من طريقها. ومنذ اللقاء بين الأب وفرانتز تبدأ بالتوضّح بالتدريج أزمة فرانتز الحقيقية... وهذا التوضّح لا يتجلى كما يمكننا ان نفهم الآن إلا عبر لقاءات فرانتز التالية بالآخرين. ذلك ان لقاءاته الأولى والحصرية كانت حتى الآن مع ليني وهي لقاءات يغلفها نوع من الإثم البادي تدريجياً كما يغلفها الكذب والخداع اللذان تمارسهما ليني مقابل صمت فريتز وانغلاقه على مآسيه الخاصة لا سيما منها اعتقاده بأنه بقدر ما يشهد موته الخاص التدريجي يشهد في الوقت نفسه موت وطنه من دون ان يكون في وسعه تقديم ايّ عون لهذا الوطن. في إزاء هذا كله ستكون اذاً حاسمة لحظة اللقاء الصعب بين فرانتز وأبيه، إذ هنا سننتقل مع الضابط الشاب من مستوى أزمة الوطن الكاذبة الى مستوى أزمة فرانتز الشخصية الى حد بعيد. فما هو الجديد الذي سيتكشّف لنا هنا منذ لقاء الابن بأبيه؟ في الحقيقة اننا بعد ضروب مناجاة طويلة مملوءة بالحزن والأسى على مصير المانيا، مناجاة يشكو فيها فريتز قدر بلاده أمام «الأجيال المقبلة» سنجدنا مع جوهانا التي تكنّ لفريتز حباً وإعجاباً حقيقيين، سنجدنا في مجابهة مع حقيقة مأساة فريتز: لقد كان قد سبق له في الماضي وحين كان النازيون لا يزالون يسيطرون على المانيا ان أخفى في غرفته رجلاً يهودياً كان أبوة هو الذي وشى به للنازيين، ثم تمكن – فريتز - من إقناع ذلك اليهودي بأن في إمكانه ان ينجو من الاعتقال والقتل إن هو تطوع في القوات العسكرية الألمانية ولقد تطوع الرجل بالفعل وأرسل الى الجبهة. كذلك يتكشف لنا – في الوقت نفسه الذي يتكشف هذا أمام أسماع جوهانا – ان فريتز حين ارسل الى الجبهة الشرقية خاض معارك عديدة ضد الأنصار لكنه لم يكتف بقتلهم على جبهة القتال بل راح يمارس أقسى ضروب التعذيب على من يعتقل منهم. والأسوأ من هذا انه هناك على تلك الجبهة راح يمارس التعذيب حتى على فلاحين أبرياء يقعون بين يديه. ان الندم هو الذي يعصر فرانتز منذ ذلك الحين ويدمره من ناحية كون بلاده – كما صورتها له أخته ليني – تدفع ثمن «أخطائه دماراً وجوعاً وذلاً»، ومن ناحية ثانية كونه غير قادر على التحدث عن هذا كله أمام احد. والآن ها هي جوهانا تستمع الى ما يقول وتكتشف حقيقة ما فعل هي التي كانت شديدة الإعجاب به قبل ان تعرف هذا معتقدة إياه مجرد ضحية. الآن مع اعترافاته صار فريتز بالنسبة اليها مجرد جلاد. وهذا التحول لضابطنا المنعزل - من ضحية في الحرب الى جلاد فيها - هو البعد الأساس في المسرحية كما بات في إمكاننا ان ندرك الآن. تكمن مشكلة فرانتز اذاً ها هنا: لقد كان في إمكانه ان يتعايش على طريقته مع صورة لوطنه «الشهيد» إذ يدمره الأعداء. في عزلته قبل اتضاح هاتين الحقيقتين (حقيقة انه ليس ضحية من جهة وحقيقة ان الأعداء لا يدمرون المانيا بل يعيدون بناءها وبالتأليف إنها ليست شهيدة من جهة أخرى) كان في إمكان فرانتز ان يخلق كذبته ويعيشها متعاملاً معها كمبرر للوجود وكقناع حام. أما الآن وقد انكشفت الحقيقة أمام جوهانا التي كانت في شكل أو آخر تخدم فرانتز كمرآة وهمية لبراءة متخيّلة، فإن فرانتز انكشف أمام نفسه وفقد مبرر وجوده معتبراً ان الموت وحده هو القادر الآن على إنفاذه من الاستمرار في مجابهة حقيقته. ومن هنا يطلب من أبيه ان يقدم له خدمة أخيرة حتى يسامحه على ما فعل به: يطلب منه ان يصطحبه في سيارته ثم يسقط السيارة بهما من أعلى هاوية. يفعل الأب ذلك ليكون الانتحار المزدوج تطهيراً للإثنين معاً. من المؤكد ان جان بول سارتر (1905-1980) لم يكتب هذه المسرحية – التي تعتبر من افضل مسرحياته – للحديث عن النازية والمانيا وعقدة الذنب الخاصة بهما، بل للدخول بهذا الشكل الموارب/ المباشر في معمعة السجالات الكبرى التي كانت تدور في ذلك الحين في فرنسا من حول حرب الجزائر لا سيما من حول ضروب التعذيب الجماعي والفردي التي كان الجيش الفرنسي يمارسها ضد المناضلين الجزائريين وكذلك ضد السكان الآمنين. والحقيقة ان سارتر كان من أوائل المبدعين الفرنسيين الذين ركزوا على هذا البعد الذي كان الحديث عنه محظوراً خلال تلك السنوات. ومن هنا فإن سارتر دمج الأسباب الفنية بالأسباب الرقابية بالأسباب السياسية ليجعل المسرحية تعالج مسألة التعذيب وعقد الذنب والكذب من خلال حكاية المانية. والحال ان الفرنسيين فهموا تماماً ما أراد سارتر ان يقوله واقبلوا على مشاهدة المسرحية والسجال حولها منذ قدّمت للمرة الأولى عام 1959 على خشبة مسرح النهضة قبل عام من صدورها مطبوعة في كتاب أتى ليضاف الى عشرات الأعمال التي كتبها سارتر في عدد كبير من المجالات تراوح بين المسرحيات والروايات والقصص والسير والمواقف وضروب النقد ونصوص الفلسفة الوجودية التي كان من أبطالها أواسط القرن العشرين وارتبطت به دائماً. [email protected]