لم تكن ثورة الشعب التونسي وليدة الصدفة والعفوية، بل كانت ثورة منظمة، لأن المآسي والمصاعب والاعتقالات التي تعرض لها على مدى 20 سنةً، نتيجة خياراته السياسية والاقتصادية المناهضة للنظام الحاكم، لم تكن هي الأخرى وليدة الصدفة والعفوية، بل كانت مدروسة في شكل متطور بحيث لا يعود هناك أي رأي مخالف لرأي النظام الحاكم، ولا أي حزب غير الحزب المشرع لشخص الحاكم. معاناة حقيقية عاشها التوانسة، في سجن نظام زين العابدين بن علي، وتطلبت الأمور تخطيطاً طويلاً، وسيناريوات متعددة حول كيفية الخروج من هذا السجن السياسي والاجتماعي الى رحاب تونس الخضراء، تونس الحرية، الى ان تم اعتماد خطة «البوعزيزي» في إحراق الجسد لتكون بمثابة البركان الذي سيقضي على كل شيء. ونجحت «استراتيجية الحرق»، في إيجاد نقطة تحول أساسية في حياة التونسيين، فهي أعادت لهم بلادهم التي صادرها بن علي وأفراد عائلته، وأعطتهم الحق في التعبير عن وجودهم من خلال تماهيهم التام مع الشارع الذي قاموا باسترداده، والأهم من هذا ان الثورة عادت لتؤكد صوابية نظرية «الشعب يقرر مصيره بنفسه». لا شك في أن انتفاضة التونسيين على بن علي ونظامه، أعد لها منذ زمن طويل لكنها نفذت بطريقة عفوية شعبية. فهي موجودة داخل كل تونسي الا أنها كانت تنتظر إشارة الانطلاق، لتصوغ من جديد حاضر تونس ومستقبل شبابها. وبصرف النظر عما اذا كان للمعارضة التونسية والأحزاب الإسلامية، اي دور ميداني في استكمال التظاهرات وإسقاط بن علي في فترة زمنية قصيرة، فإن الشعب التونسي أعاد خلط الأوراق في العالم العربي، وليس فقط على المستوى التونسي الداخلي، من خلال تأكيده أن الشعوب متى امتلكت إرادة إثبات ذاتها والتعبير عن وجودها كمحرك للأحداث وصانع لها، وليس فقط كمجرد متلقٍ لها، فهي قادرة على صنع التاريخ وقلب الموازين أياً كانت الظروف. و«التوانسة» بهذا وجهوا رسالة بالغة الوضوح الى الشعوب العربية والإسلامية وحتى العالمية، مفادها ان الرهان على الحاكم لتغيير نمط الحكم هو رهان فارغ من اي مضمون، وهو كمن يحاول الإيحاء بأنه قادر على مسك المياه في يديه فترة طويلة من الزمن. انطلاقاً من هذا لا بد لثورة الياسمين من أن يمتد عطرها الى الدول العربية فتكون الدواء لداء تغلغل في الذهنية والأنظمة السياسية وبات الشفاء منه ضرباً من المستحيل. الا ان الأمر لن يكون بهذه السهولة لأن لكل بلد عربي خصوصيات وظروفاً مخالفة. وعلى رغم هذا فلقد قرع جرس الإنذار العربي، فهل هناك من يسمع ويعيد النظر في واقعه المتداعي؟ أم إن أجراس الإنذارات جميعاً على أهميتها ورمزيتها باتت عاجزة حتى من الوصول الى آذان من حظي بنعمة الحكم مدة عشرين سنةً ولا يزال؟ فهل سيتمكن «العطر التونسي» من الوصول الى «الضباب» السائد في الشارع العربي؟ وفي حال وصوله بالسلامة هل سيجد من يستقبله بالصدر الرحب أم إن أجهزة الاستخبارات ستكون قد اعتقلت كل المواطنين الذين لا زالت حاسة الشمّ لديهم حية ترزق؟