من المستحيل أن تكون الحكومة ثورية لأنها حكومة... هكذا تحدث باكونين، وإذا كان محتكر الخبز هو محتكر الحريات، فإن الشعوب تتبوأ مقامات الثورة طلباً لهذا الخبز المقدس مطيحة بأشواط الكبت التي تجرعت مرارتها طويلاً، تواقة لتلك الحرية المعلنة عن وجود الذات المجتمعية المطلة من طرف خفي تتسول النظرة من الأنظمة السياسية التي تعصف دائماً بآمالها وطاقاتها لتظل قابعة حتى لو كانت مهددة بلحظة المواجهة والانفجار التي تخلخل وتقوض سطوتها مهما بلغت من الديكتاتورية والنرجسية المنسحقة دائماً - في إطار السنن التاريخية - أمام الطوفان! ولقد اجتاحت موجات الغضب الجماهيري المتصاعد - حتى إنها قد أطاحت بالنظام الحاكم بأكمله - جنبات بلد كتونس ليس لأسباب تحمل من الخصوصية المحلية ما يدفع نحو تحليلها في إطار طبيعتها وظروفها وخلفيتها ولكن لأسباب تحمل من العمومية الإقليمية ما يدفع نحو الوقوف على أوضاع وتأزمات الشعوب العربية بأسرها، إذ تمثل وإلى حد بعيد قواسم مشتركة تحمل في طابعها نمط السياق العام، فليست المشكلات التي تكيفت معها المجتمعات العربية واستمرأتها سبباً مباشراً في إحداث تلك الأزمة وإنما حدة هذه المشكلات وقسوة وطأتها وتحولها إلى نوع من السخف الاجتماعي، حتى أصبحت هذه المجتمعات تعايش آفات متأصلة تتمتع بنوع من الثبات النسبي على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والاستراتيجي والمعرفي ويمكن اختزالها في تصاعد معدلات الفقر والبطالة وانخفاض وتراجع معدلات التنمية وشيوع المظالم وانهيار المنظومة التعليمية والتخلف الثقافي والرجعية الحضارية وقمع الحريات وسحق الديموقراطية وغياب الرؤية المستقبلية. ولعلها وعلى إجمالها كانت إحدى البواعث المحركة للانتفاضة التونسية والتي ساقها حماسها وغليانها نحو ضرورة إحداث تغييرات جذرية على الأصعدة والأبعاد كافة وألجأت النظام إلى محاولات احتواء الأزمة واستقطاب فئاتها من طريق الاستجابة الفورية لمطالب الشرائح المهمشة وليس من طريق توظيف الآلة البوليسية والهياكل الأمنية وهو ما يجعل من أعواد الثقاب قنابل موقوتة أبادت تلك السلطة المتآكلة وعصفت بذلك الانفلات السياسي الممجوج خارج البلاد. وليست هذه الانتفاضة كتلك التي كانت أثناء ثورة الخبز منذ ربع قرن أو الثورة النقابية منذ عقدين أو الانتفاضة المسلحة بسليمان وغير ذلك، لكن الأنظمة السياسية العربية دائماً وأبداً لا تعتبر بمبدأ التوظيف والاستفادة من التجارب التاريخية للشعوب والذي ربما مثّل غطاء استراتيجياً للحفاظ على وضعيتها، لكن أيضاً هل يمكن اعتبار أن الحادث في تونس هو من قبيل الأشياء العابرة التي لا تستوقف عالمنا العربي أم تعتبر أنه مستصغر الشرر الذي أتى على الأخضر واليابس؟ وهل كان احتكاك الجهاز الشرطي مع الشاب بائع الخضار هو القشة التي اعتمدتها الثورة الشعبية كركيزة لانطلاقاتها؟ أم إن انطلاقها الفعلي كان على أثر الدلالة البالغة من الإقدام الجسور للشاب على إحراق نفسه؟ وهل كانت بانوراما الفضائح المنشورة في كتاب «حاكمة قرطاج» للفرنسيان «نيكولا بو» و «كاترين جارسيه» - والممنوع من التداول - هي حجر الزاوية أو محور الثورة الشعبية ضد النفوذ العريض لقرينة الرئيس التونسي؟ وهل مثل كل ذلك أو بعضه نوعاً من عدوى الشعور كانت لها امتدادات في الأقطار الأخرى كالجزائر والتي تطابقت مشكلاتها مع مشكلات الشقيقة تونس؟ وهل كانت الأوضاع العامة للشعب الجزائري في حاجة إلى شرارة تونس؟ وهل هو التفاعل الحميم أم إنه الاستفزاز النبيل الذي دفع بالجزائريين نحو إعلان المطالب وتأكيد الحقوق على الغرار نفسه؟ وهل يمكن الشرارة التونسية المتوهجة أن تنتقل عبر عالمنا العربي في الشكل الذي ينصف الشعوب من الأنظمة؟ وهل يمكن أصحاب الثروات في عالمنا العربي أيضاً أن يخوضوا مغامرة الولوج لحقل العمل الاجتماعي مؤازرة للأنظمة والشعوب أيضاً؟ وماذا تعني بالنسبة لهم تجربة «محمد يونس» صاحب بنك الفقراء وتجربة «بيل غيتس» بكل تبرعاته للأعمال الخيرية في الكثير من الدول من أجل سيادة العدل الاجتماعي والمساواة؟ ان الهياكل السياسية العربية ليست إلا منظومة حيوية تؤثر وتتأثر بعضها ببعض ولها ارتباط عضوي وظيفي يقترب بها من ميدان البيولوجيا وقوانينه ونظرياته المشيرة إلى أن الكائنات والأحياء المتشابهة لا يكون العدوان بينها إلا استثناء، كما أن هذه الكائنات إنما تتغذى وتقيم أودها أحياناً على كاهل غيرها لكنها لا تأكل ذاتها بحال، لذا فستظل تلك الهياكل لتعصم نفسها من ويلات النهاية في حاجة ملحة دائماً لذلك المشروع القومي العربي المتوازن الذي يؤلف بين ذواتها ويجعلها كلاً موحداً بدلاً من كونها كثرة كغثاء السيل!