يغرق الزائر للحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل في الضفة الغربية، عميقاً في التاريخ البعيد، وهو يلامس حجارة قبور الأنبياء الأولين، مثل إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب وقبور زوجاتهم. بني الحرم الإبراهيمي فوق مغارة النبي إبراهيم، عليه السلام، التي دفن فيها مع زوجته سارة وأبنائه الثلاثة إسماعيل واسحق ويعقوب وزوجاتهم. ووفق الروايات التاريخية فقد اشترى النبي إبراهيم هذه المغارة لتكون مقبرة لعائلته، وأقام النبي سليمان الحرم فوق المغارة. وتحوّل الحرم إلى كنيسة في العهد البيزنطي ثم إلى مسجد في عهد صلاح الدين الأيوبي. والحرم الإبراهيمي الصرح الأبرز في هذه المدينة التاريخية التي تعاقب عليها الأنبياء، وأقيمت لهم فيها مقامات ومساجد، ما حدا بالمنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم «يونيسكو» لإدراجها، أول من أمس، على قائمة التراث العالمي. ويضم الحرم منبراً يحمل اسم صلاح الدين الأيوبي، يتكون من 3500 قطعة أقيم في عهد المماليك. وتضم المدينة مقامات لعدد من الأنبياء والأولياء مثل النبي يونس والنبي نوح وغيرهما. وكغيرها من المدن الفلسطينية العتيقة، تحولت الخليل إلى بؤرة للصراع مع الاحتلال الإسرائيلي على كل حجر وكل مبنى. وقسمت سلطات الاحتلال الحرم الإبراهيمي البالغة مساحته 2040 متراً مربعاً إلى قسمين، واحد لليهود، يشكل الجزء الأكبر (57 في المئة من مساحة الحرم) وآخر للمسلمين. ومنحت السلطات الحديقة التي تحيط بالحرم للمستوطنين اليهود، وأقامت ثكنة عسكرية على مدخله بحيث يخضع الزائرون لتفتيش دقيق. وقال عماد حمدان المدير العام للجنة إعمار الخليل إن «المساحة الفعلية التي حصل عليها المستوطنون من الحرم تصل إلى حوالى 75 أو 80 في المئة إذا ما أخذنا في الاعتبار الساحات والحدائق التي استولوا عليها». وقال منذر أبو الفيلات، الخبير في شؤون الحرم إن «سلطات الاحتلال منحت المستوطنين الحضرة الإبراهيمية، والحضرة اليعقوبية والحضرة اليوسفية ومقام الصحن، وأبقت لنا فقط الحضرة الإسحقية والحضرة الجاولية». ويضم الجزء الذي تحول إلى كنيس يهودي من الحرم قبر إبراهيم وزوجته سارة، وقبر يعقوب وزوجته رفقة، وقبر يوسف، إضافة إلى صحن المسجد، وهي المنطقة المكشوفة فيه. ويضم الجزء الذي ترك للفلسطينيين قبر إسحاق وزوجته ليئة. وفصل الجزءان بحواجز وبوابات حديدية محكمة. وسمحت السلطات للمستوطنين استخدام حديقة الحرم على مدار العام. كما منحتهم حق استخدام حصة المسلمين من الحرم في فترات الأعياد اليهودية، ومدتها عشرة أيام في السنة، يجري خلالها إغلاق أبواب المسجد أمام المصلين المسلمين. والأمر ذاته ينطبق على المسلمين في فترات الأعياد الإسلامية بحيث لا تتجاوز عشرة أيام في السنة، علماً أن أعياد المسلمين تفوق العشرة أيام. وبعد تقسيم الحرم الإبراهيمي، أقامت السلطات الإسرائيلية بوابات حديدية ضخمة وأجهزة تفتيش على مداخله، وأغلقت معظم الطرق المؤدية إليه، ووضعت كاميرات مراقبة داخل المبنى المقسم لمنع حدوث أي احتكاك بين الجانبين. ويستوطن في قلب مدينة الخليل 400 يهودي يقيمون في أربع تجمعات استيطانية هي: «ابرهام ابينو» وتقع قرب الحرم الإبراهيمي الشريف. «بيت رومانو»، وهي بؤرة أقيمت حول مدرسة «أسامة بن المنقذ». «بيت هداسا» التي أقيمت في حي «الدبويا»، و «رمات يشاي» التي أقيمت في حي «تل الرميدة». وقسمت السلطات الخليل إلى مجموعة أقسام لتسهيل تنقل المستوطنين. وقال حمدان إن «السلطات الإسرائيلية قسمت البلدة القديمة إلى ثلاثة أجزاء: جزء لا يمكن لأهالي الخليل الوصول إليه مثل شارع الشهداء وأول شارع السهلة، وسوق الخضار المركزي، وسوق الذهب، وسوق الملابس القديمة. وقسم يمكن الوصول إليه لكن عبر بوابات وحواجز مثل الحرم ومنطقته، والمحكمة وغيرها. وقسم يمكن الوصول إليه من دون قيود مثل حارة القصبة والقزازين». وكان شارع الشهداء من أكثر الشوارع التجارية حيوية في المدينة، لكنه تحول إلى سوق شبه مهجورة بعد إغلاق المنطقة. وقسمت إسرائيل مدينة الخليل، بموجب الاتفاق الخاص مع السلطة الفلسطينية والذي يسمى «بروتوكول الخليل»، إلى منطقتين، (H2) الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، والتي تشكل ثلث مساحة المدينة، وفي القلب منها البلدة العتيقة والحرم الإبراهيمي الشريف، ومنطقة (H1) الخاضعة للسلطة الفلسطينية. وبحسب الجهاز المكرزي للإحصاء، يعيش في مدينة الخليل 206 آلاف فلسطيني منهم 50 ألفاً يعيشون في منطقة «H2» الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية. وأثار قرار «يونيسكو» إدراج الخليل على قائمة التراث العالمي، غضب إسرائيل والإدارة الأميركية. ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي القرار بأنه «سخيف». وقال في تصريح رسمي: «هذه المرة قررت يونيسكو أن مغارة المغبيلا (الاسم الإسرائيلي للحرم الإبراهيمي) هي عبارة عن موقع فلسطيني، أي غير يهودي، وأن هذا المكان يتعرض للخطر». ووصفت مندوبة أميركا الدائمة لدى الأممالمتحدة نيكي هايلي قرار «يونيسكو» بإدراج مدينة الخليل ضمن لائحة التراث العالمي بأنه «إهانة للتاريخ»، وقالت إن بلادها تعيد تقويم مدى انخراطها في عمل منظمة «يونيسكو»، رداً على هذا القرار. وكانت واشنطن أوقفت المساهمة في تمويلها عام 2011 بسبب اعترافها بدولة فلسطين كعضو فيها، لكنها لا تزال حتى الآن عضواً في هيئتها الإدارية. وردت وزارة الخارجية الفلسطينية بشدة على تصريحات المندوبة الأميركية، وجاء في بيان أصدرته الوزارة أمس: «حاولنا الرد بديبلوماسية على السفيرة الأميركية لدى الأممالمتحدة، على اعتبار أنها عديمة الخبرة الديبلوماسية وسطحية المعرفة في الشؤون الدولية». وجاء قرار «يونيسكو» بتصنيف مدينة الخليل القديمة تراثاً إنسانياً وموقعاً تابعاً للأراضي الفلسطينية بعد أيام من قرار لجنة التراث العالمي في «يونيسكو» في دورتها الحادية والأربعين، التي عقدت بمدينة كراكوف في بولندا، اعتبار البلدة القديمة في القدس وأسوارها تراثاً فلسطينياً، داعية إلى الإبقاء عليه كما كان قبل احتلال المدينة عام 1967.