«ماذا يعني بالنسبة إلى تاريخي المهني المديد إنجاب مئات اللوحات وآلاف الرسوم، وإقامة عشرات المعارض، والشراكة في التظاهرات التشكيلية العربية والعالمية؟». بهذه الكلمات يطالعنا الفنان والناقد أسعد عرابي في كتابه «شهادة اللوحة» متسائلاً عن تجربته ثم ملخصاً الإجابة في بضع كلمات موحية يلملم بها أطراف تلك التجربة المترامية بين دفتي الكلمة والصورة، والتائهة بين حنينه إلى الوطن ووجع الاغتراب. أسعد عرابي هو أحد الفنانين القليلين الذين يحترفون الكتابة في الفن. وهو يفعل ذلك عن حب وإيمان بقيمة الصورة في سياق الخبرة الإنسانية، ومن منطلق إيمانه أيضاً بارتباط هذه الصورة بتاريخ الثقافة العربية، ومن منطلق صوفي بحت. وكما هو منشغل بالصورة فهو منشغل أيضاً بالموسيقى التي يعتبرها نداً للصورة أو رفيقاً تأملياً وعرفانياً لها يمتد من تأويلات الحلاج وابن عربي وغيرهما إلى تجليات هذا الوجد الصوفي في الموسيقى والمشهد البصري في العصر الحديث. تخرج أسعد عرابي في كلية الفنون الجميلة في دمشق وتحول من دارس إلى أستاذ في الكلية نفسها. هذا قبل أن يرحل إلى صيدا ثم بيروت، ثم انطلاقه في رحلة اللاعودة إلى العاصمة الفرنسية باريس حيث يقيم منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي. هذه المدن التي عاش فيها عرابي تركت أثرها في تجربته الفنية. وهو يلمس ذلك الأثر الذي تركه المكان في تجربته في كتابه «شهادة اللوحة»: «يرجع تمسكي بأهداب المكان في اللوحة إلى تقطع أوصال علاقتي الطفولية به. عرف والدي بشدة الترحال والسفر، وورثت عنه اغتراباته. ولدت في الزرقاء وعشت في دمشق وحافظت على تابعية والدي الصيداوية في لبنان. واكتسبت في فرنسا بطاقة جنسية أخرى. فكما يهرب الناس من وحدتهم فقد قدر لي أن أهرب من المكان الذي أتعلق به. هذا هو شأني مع مدن الوجدان: دمشق وصيدا. سكنت دمشق في كنف أهل والدتي، وهي عائلة عريقة يصل نسبها كما يدعون إلى أخي هارون الرشيد. هو الذي عزف عن الحكم، وزهد في الدنيا وعاش درويشاً يضرب في أرض الله الواسعة. لذا فقد أطلق على العائلة اسم البهلول. وبما أنني ورثت عن أبي طبعه الغجري المهاجر فقد كنت أشرد عن دمشق إلى صيدا وبيروت حتى تمركز نشاطي المهني في هذه الأخيرة. وبقدر تعلقي بهذه المدينة كنت أسعى للخلاص من شباكها العاطفية حتى أنني بدأت أعاني درجة من الانفصام على المستوى الأسلوبى. انفصام يقع بين الإخلاص العصبوي والخيانة الزوجية. وتضاعف هذا الانفصام مع هجرتي وإقامتي النهائية في باريس مع الحرب اللبنانية عام 1976». يقول عرابى: «في باريس وشمت لوحتي بالحيرة نفسها بين الأمكنة المتباعدة. وكلما ازدادت غربتي في فندق باريس الكبير، ترعرع الإحساس بخطيئة الانسلاخ عن دروب دمشق. لم يفارقني هذا الهاجس خلال ثلاثة عقود ساعياً بين أروقة المترو والمصاعد واحتساء القهوة الفرنسية على عجل على كتف البار. لعلها المحطة الوحيدة السريعة التي يلتقط فيها الباريسي أنفاسه من لهاث إيقاع المدينة الصناعية الجهنمية». لماذا تركت مدن الوجدان هذه كما تسميها وذهبت في رحلة اللاعودة إلى باريس. وماذا أخذت معك إلى هناك؟ - ذهبت إلى باريس لاستكمال دراساتي العليا وحصلت على درجة الدكتوراه وكانت رسالة مجزأة إلى ثلاث شهادات عن علاقة التصوير والموسيقى بالفن الإسلامي. ومن أجل هذا درست الموسيقى هناك لمدة سنة في شكل مكثف. ولم تكن هذه أول علاقة لي بالموسيقى. فقد كنت في صغري مهتماً أيضاً بها ودرستها في المعهد العالي للموسيقى في دمشق. ودائماً أقول إذا لم أكن مصوراً لكنت موسيقياً. فالموسيقى أرقى من التصوير وأكثر إعجازاً. ووضعها شوبنهاور في مرتبة أعلى من الفنون الأخرى كما أنها أقرب الفنون إلى التصوير. لم أذهب إلى باريس مراهقاً، بل ذهبت إليها ناضجاً، وهناك اقتربت أكثر من الذاكرة العربية الإسلامية من دون تشويش. وعرفت الكثير عن الأجوبة الثقافية المشوشة في بلادنا كالخلط بين الأصولية والفن. كثير من المثقفين في بلادنا ذهبوا إلى السجون فقط لأنهم يعرفون. فالمؤامرة على العرب اليوم ليست مؤامرة عسكرية، وإنما معرفية. هي حرب على الوعي العربي، فالوعي هو الخصم اللدود للقوى المهيمنة. إنها حرب لم نؤهل أنفسنا للمشاركة فيها. لذا فقد حكم علينا بالعبودية. وهو حديث يائس ولكن هذا هو الواقع. كيف تنظر إلى حركة التشكيل العربي من محترفه الباريسي؟ - عندي ميزتان: الأولى أنني رسام محترف، فأنا لست غريباً على المهنة. أما الثانية فهي كوني أمارس الكتابة في علم الجمال والفلسفة. وأرى أن الفن العربي خارج حدود الوطن العربي أقل مصائب من داخله. الفنان العراقي مهدي مطشر، على سبيل المثال، وهو موجود في باريس لا يقارن بأي مثيل له في الاتجاه نفسه في العراق. والأمر نفسه ينطبق على فنانين آخرين، كالفنان اللبناني شفيق عبود، فهو عندي أهم من كل تجريدي لبنان. والفنان أحمد عمر خليل السوداني هو أهم من كل الفنانين السودانيين من داخل السودان. والفنان نبيل نحاس هو أهم من أي فنان لبناني موجود في لبنان الآن. ولماذا؟ - لسبب بسيط، هو أن هناك كذبة كبيرة اسمها الفن العربي المعاصر. فحتى تكون معاصراً يجب أن تكون ساعتك الحائطية متطابقة مع الزمن الراهن، وليست متأخرة إلى الوراء على الأقل خمسين عاماً. فأعمال الفنانين المعاصرين في الوطن العربي الآن ترطن بإشكاليات أكل الدهر عليها وشرب. فالجدل حول التجريد على سبيل المثال كله ملغى منذ الستينات. حتى هذه المسطحات التي تبدو أنها من إبداعنا، هي في حقيقة الأمر لا تخصنا، فهي اختراع غربي في الأساس. فكلمة حروفية في أساسها وبالمعني الصوفي لا تشير إلى هذا المعنى السطحي المستخدم. والواقع أن حركة الفن عندنا ليست على ما يرام. وعلى رغم ذلك فهي لا تزال مستمرة في غيّها وادعائها وانتفاخها. وفي فترة من الفترات كدت أن أكتب كتاباً عن الفن العربي وكرست له سنوات، وانتهيت إلى أنه سيكون محبطاً فتوقفت عن كتابته. عندنا الأمور تتخذ أشكالاً مأسوية وساخرة. فالنقابات الفنية لدينا على سبيل المثال هدفها أن تساوي بين الفنان المحترف والهاوي... وعبر السنوات الطويلة، نجد أن الغلبة والأكثرية تكون للهواة، والأقلية هم من الفنانين، فتصبح هناك سيطرة للذي لا يعرف على الذي يعرف، وهو نوع من مظاهر الجهل. كيف تتعامل مع مساحة الرسم البيضاء؟ هل تجلس أمامها بذهن فارغ من أي تصورات، أم أن هناك تصوراً مسبقاً لهذا العمل قبل الشروع في تنفيذه من طريق الإسكتش أو الرسوم التحضيرية؟ - كثيراً ما أداهم فراغ اللوحة بمساحات مبهمة وهي التي تقودني إلى الموضوع، يحدث في بعض الحالات مثل معرضي الأخير عن أم كلثوم أن أشاهد أفلاماً كثيرة عنها ثم أرسمها من الغيب في اسكتشات. وعندما أجد أنني نسبياً قد عرفت كل تفاصيلها أرمي الورق وأبدأ من الذاكرة. كيف يوظف الفنان الموروث في أعماله من دون الوقوع في شرك التقليد؟ - بعد ظهور علم الهندسة الوراثية صارت الطبيعة في حد ذاتها هي الموروث الأساسي، وإذا كنا نتحدث عن الجينات، فالفكر في حد ذاته جينات. فالإنسان يشبه أخاه، ويشبه بني جنسه وأقاربه. هذا على مستوى الشكل والهيئة. كذلك الأمر في الفكر. فهناك جينات فكرية موجودة لدى الشعوب وتختلف من شعب إلى آخر. وهو ما كان يترجم خطأ بالعنصرية، فأنت حفيد جلال الدين الرومي أو بابلو بيكاسو شئت أم أبيت. ومن هنا نشعر أن الموروث تغير جذرياً. فما عاد الموروث هو ابن الإبن ومشتقاته العائلية. صار الموروث إنسانياً بالدرجة الأولى. يجب أن نعرف أن موروثنا يشارك فيه الآلاف والملايين. فأنا اليوم موجود في القاهرة حاملاً معي مجموعة من اللوحات متعلقة بأم كلثوم. أنا لم أحضر إلى هنا لأبيع الماء في حارة «السقايين» كما يقولون. يجب أن يعرف المصري أن أم كلثوم ليست له وحده. فهي ملك جماعي إنساني وعربي ومصري، فأنا لي أم كلثومي التي تخصني، وهي غير أم كلثوم التي تخصك أو تخص الآخرين. لمناسبة معرضك عن أم كلثوم. لماذا لجأت إلى استرجاع هذه المشاهد من الذاكرة؟ - آخر شيء كان يدور في ذهني هو استرجاع صورة أم كلثوم لأن هذا الاسترجاع عملية سهلة وتجارية. الشيء الأساس الذي توخيته هو عمل تأويل على المرحلة أو الأجواء الصوفية لأم كلثوم بالألوان والخطوط. لماذا أطلقت على معرضك الأخير «نوستالجيا» أو «الحنين إلى الماضي»؟ - الحنين إلى الماضي هنا هو حنين إلى رموز النهضة. وأم كلثوم هي رمز ثقافي في منتهى الأهمية. كان هناك اتجاهان مسيطران في الثقافة العربية: اتجاه نهضوي يمثله توفيق الحكيم وقاسم أمين وآخرون. واتجاه صوفي يمثله محمد عبده والإمام أبو حامد الغزالي وجلال الدين الرومي. وأصحاب الطرق الصوفية كلهم مثل القادرية والشاذلية والرفاعية. ولدينا فرق عريقة للإنشاد الصوفي ومطربون كبار ينتمون إلى هذه الطرق مثل أحمد التوني القادري، والتهامي وهو شاذلي، وأم كلثوم كانت تربيتها دينية على طريقة فرق الإنشاد الصوفي، فأبوها شيخ ومنشد. ليست تربية أم كلثوم وحدها بل والسنباطي أيضاً كانت تربيته صوفية بالدرجة الأولى. وبالتالي عرفت أم كلثوم بالأغاني الصوفية وكرمت من عباقرة عالميين مثل الراقص موريس بيجار. كما التقى معها أيضاً الموسيقي بيلا بارتوك عام 1946 وكان لأغانيها أثر في قناعاته في ما بعد، وبيلا بارتوك كان موسيقاراً كبيراً تعادل أهميته موسيقى بيتهوفن في الموسيقى المعاصرة وهو هنغاري الأصل، وبعد لقائه بأم كلثوم زاد اهتمامه أكثر بالموسيقى الشرقية محاولاً عقد مصالحة بين الموسيقى الغربية والموسيقى العربية.