لم يخف دارين أوزبورن (49 سنة) دافعه عندما صدم بشاحنته «الفان» البيضاء، قبل أيام، جمعاً من المسلمين الخارجين من صلاة التراويح في مسجد بضاحية فنزبري بارك، شمال لندن. قال صراحة إنه يريد «قتل كل المسلمين». بدا تصرّفه، للوهلة الأولى، ردّ فعل على أسلوب لجأ إليه في السنتين الماضيتين مناصرون لتنظيم «داعش» قادوا شاحنات ودهسوا بها مارة، في لندن مرتين (على جسري وستمنستر ولندن بريدج) وفي مدن أوروبية أخرى (أكثرها دموية في نيس الفرنسية). ولكن هل التصرّفات المتطرّفة ل «داعش» فقط هي ما دفع بهذا الرجل إلى تبنّي تطرّف يميني مضاد؟ صحيفة «الغارديان» اليسارية بدت كمن يوجّه اللوم إلى اليمين الشعبي البريطاني في دفع أوزبورن إلى التطرّف أكثر من لومها «داعش». فقد نشرت رسماً كاريكاتورياً ظهر فيه «فان» أوزبورن الأبيض في موقع حادثة دهس المصلّين المسلمين وقد كُتب عليه عبارة: "إقرأ الصن والديلي ميل». والأولى هي أكثر صحف التابلويد الشعبية اليمينية رواجاً، في حين أن الثانية هي أكبر مطبوعات اليمين المحافظ انتشاراً وتأثيراً على رغم أنها أيضاً بحجم التابلويد. دقّ كاريكاتور «الغارديان» على وتر حساس في المجتمع البريطاني كونه عكس مدى الانقسام بين اليمين واليسار في مسألة الاندماج والهوية والهجرة والإرهاب وارتباط هذه المسائل ببعضها بعضاً. لم تكتف «الغارديان» بالكاريكاتور للتعبير عن خطها التحريري الذي يحمّل اليمين الشعبوي مسؤولية التحريض ضد الإسلام والمسلمين. فقد أورد أوين جونز، كاتب الرأي في هذه الصحيفة اليسارية، في مقالة ما يأتي: «في حين أن اليمين المتطرّف كان دائماً مهووساً بالشعب اليهودي، فإنه اليوم لا يزيح أنظاره عن المسلمين والإسلام. بعد ثلاث هجمات إسلاموية إرهابية في ثلاثة أشهر، بعضهم يعتقد أن المسلمين ككل طابور خامس وإنهم تهديد من الداخل للحضارة الغربية. وهذا ما يقودنا إلى ما يمكن أن يقال عنه «بريفيكيزم». عام 2011، شن الإرهابي الفاشي النروجي أندرس بيريفيك هجوماً مناوئاً للإسلام لكنه لم يستهدف المسلمين. عوض ذلك، استهدف الشبان الاشتراكيين الذين اعتقد أنهم خونة ومسؤولون عن الهجرة الجماعية والتعددية الثقافية وأسلمة أوروبا. وفق وجهة النظر هذه فإن اليسار هو المقوّي للإسلام (...). هذا الرأي ذاته هو الذي قاد الإرهابي الفاشي توماس مائير إلى قتل النائب جو كوس وهو يصرخ: «بريطانيا أولاً». ووفق كاتب «الغارديان» فإن «دعاة الكراهية الذي لهم وجود إعلامي، مثل كايتي هوبكينز (كاتبة يمينية مثيرة للجدل) وتومي روبينسون (زعيم يميني متطرّف)، يعطون الشرعية لهؤلاء المتعصبين، ويساهمون في الدفع أكثر نحو التشدد. النقيق الروتيني ضد المسلمين والمهاجرين في الصحف البريطانية يزيد أيضاً من الكراهية لدى اليمين المتطرّف. خطر اليمين المتطرف سينمو لا محالة. مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي ستنتقل من أزمة إلى أخرى، معززة شعور اليمين المتطرّف بأن بريطانيا تتعرّض لهجوم من أعداء من الخارج وخونة من الداخل». لم يمر يومان على انتقادات «الغارديان» حتى ردّت «الديلي ميل» بعنوان عريض (يوم الخميس) على صدر صفحتها الأولى جاء فيه: «أخبار مزيفة، اليسار الفاشي والمروّج الحقيقي للكراهية». وخصصت الصحيفة صفحة داخلية بكاملها لشن حملة لاذعة على «الغارديان» لا سيما بسبب انتقاداتها لها على خلفية خطابها في شأن الإسلام والمسلمين، وهو خطاب يقول معلقون إسلاميون ويساريون إنه يساهم في تعزيز ظاهرة «الإسلاموفوبيا». وسعت «الديلي ميل»، في ردّها الطويل، إلى التمييز بينها كنسخة ورقية وبين موقع الصحيفة الإلكتروني «ميل أونلاين»، مشيرة إلى أن لكل منهما إدارة مستقلة وخط تحريري مستقل. كما أشار الردّ إلى أن الكاتبة المثيرة للجدل كايتي هوبكينز التي انتقدتها «الغارديان» بسبب خطابها العنيف ضد الإسلام، ليست موظفة في الواقع في الصحيفة الورقية بل هي كاتبة في الموقع الإلكتروني، وهو أمر صحيح تقنياً، على رغم أن الصحيفة والموقع يعملان في المبنى ذاته في لندن، وإن بطاقمين مختلفين. وأثارت هوبكينز ضجة واسعة في بريطانيا الشهر الماضي عندما غرّدت على «تويتر» بعد الهجوم الإرهابي ضد قاعة «أرينا» في مدينة مانشستر (22 قتيلاً)، داعية إلى اعتماد «الحل النهائي» رداً على ما يقوم به مناصرو «داعش». وعبارة «الحل النهائي» تعني في المفهوم الغربي «الإبادة» كونها مرتبطة بالنازيين وخطة زعيمهم هتلر للقضاء على اليهود. ومحت هوبكينز التغريدة لاحقاً، لكن هناك شكوى ضدها مقدّمة لدى الشرطة. واتهمت «الديلي ميل»، في ردّها الطويل، «الغارديان» بأنها هي «المروّج الحقيقي للكراهية»، مشيرة إلى أن كتاباً فيها نشروا مقالات عبّروا فيها عن تطلّعهم إلى «مستقبل يكون فيه قراء الديلي ميل ... جميعهم موتى» ووصفوا الصحيفة بأنها «أنبوب مفتوح للصرف الصحي» (مياه المجارير). كما زعمت أيضاً أن «الغارديان»، بعكسها هي، تهدد الأمن القومي البريطاني بتعاونها مع جوليان أسانج وموقع «ويكيليكس»، وبنشرها معلومات لمسرّب تقارير وكالة الأمن القومي الأميركي إدوارد سنودن. هل «الغارديان» مصيبة في تحميل «الديلي ميل» (و «الصن») مسؤولية تنامي اليمين المتطرّف، أم أن «الديلي ميل» بريئة حقاً والمسؤولية تقع، في الواقع، على «اليسار الفاشي» الذي لا يحرص على الأمن القومي البريطاني، ك «الغارديان»؟ على الأرجح، سيميل البريطانيون، وفق انتمائهم السياسي، إلى تصديق صحف اليسار أو صحف اليمين. اليساريون، كما يبدو، وجّهوا ضربتهم أولاً. فقد جمعوا شرائح من عناوين «الديلي ميل» التي يعتبرونها تحرّض ضد المسلمين والمهاجرين وبدأوا توزيعها على نطاق واسع دفاعاً عن «الغارديان». «غضب حول مؤامرة لإدخال مليون ونصف مليون تركي إلى بريطانيا»، «رئيس الحكومة: مسلمو المملكة المتحدة يساعدون الجهاديين»، «أعداد المهاجرين تصل إلى رقم قياسي جديد»، «100 ألف مهاجر غير شرعي أوقفوا على حدود بريطانيا»، «مليون مهاجر آخرين في طريقهم إلى هنا». هذه أمثلة قليلة لعناوين «الديلي الميل» على صدر صفحاتها الأولى. منتقدوها سيسارعون إلى القول إن هذه العناوين تؤكّد تورّطها في التحريض. محبوها سيدافعون عنها قائلين: إنها تكتب الحقيقة كما هي.