من محاسن الشريعة ومكارمها الصدقة الجارية. وقد حمل قدماء العلماء الصدقة الجارية على أنها تعني «الوقف»، وصنفوا الوقف ذاته في باب «مكارم الأخلاق». ولا غرابة في هذا التصنيف، فنظرة الإسلام الى الأخلاق نظرة عملية، تترجمها التصرفات والسلوكيات الحسنة، لا الشعارات الرنانة، ولا الأقوال المنمقة. وأعلى مراتب التصرف الحسن والسلوك القويم هو جلب المنفعة للآخرين ودفع الضرر عنهم. ومن أعظم المنافع وأشرفها منزلة جلب العلم وإزاحة الجهل. دلَّ على ذلك كثير من آيات الذكر الحكيم وسنة النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم). ومن ذلك قوله تعالى: «يرفع الله الذن آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات». وقول النبي: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع». ويؤثر عن الإمام علي أنه قال: «أقل الناس قيمة أقلهم علماً». ويروى عن سهل التستري أنه كان يقول: «ما عصى اللهَ أحدٌ بمعصية أشدَّ من الجهل». لهذا كله، ولغيره مما هو في معناه من توجيهات القرآن الكريم وسنة النبي وأعمال أهل الصلاح والتقوى، كان المتصدقون بالأوقاف هم رعاة العلم والتعلّم والتعليم ونشر مختلف فروع المعرفة على أوسع نطاق. ففي الأوقاف نشأت المدارس، والمعاهد العلمية، والمكتبات العامة، ومجالس العلم، ودور الحكمة، والكليات والجامعات الشاملة في مشارق العالم ومغاربه. ويَحكي ابن حوقل أنه وجد 300 مدرسة تمولها الأوقاف في صقلية عندما زارها في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. وأبو القاسم البلخي كان يركب حماراً ليتمكنَ من تفقد ثلاثة آلاف تلميذ يدرسون في كتاب الوقف. وحكى الرحالة الأشهر ابن بطوطة عن اتساع مؤسسات العلم ونشر المعرفة في مختلف أصقاع الأمة الإسلامية التي زارها في رحلته الطويلة خلال القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي. كان المسجد هو المحضن الأول لنشأة «المدرسة» التي تطورت عن حلقات العلم المفتوحة. واعتمد كلٌ من المسجد والمدرسة اعتماداً شبه كامل على الأوقاف. ومع نشأة المساجد الكبيرة (الجوامع) التي تؤدى فيها الصلوات الجامعة، تطورت مدرسة المسجد وأصبحت تشبه «الجامعة» من حيث تعدد التخصصات العلمية، وكثرة الطلاب، وتنوع انتماءاتهم المذهبية والجهوية، بعد أن كانت المدرسة تقتصر غالباً على تعليم مذهب فقهي واحد أو فرع واحد من فروع العلم. وبفضل هذه الخلفية، امتازت العلوم والخدمات التعليمية التي قدمتها مدارس المساجد وكليات الجوامع وجامعاتها إبان ازدهار الحضارة الإسلامية بأنها كانت ذات مستوى رفيع في مقرراتها ومناهجها، وكانت أيضاً أعلى حساسية لاحتياجات سوق العمل، إذا قارناها بمؤسسات التعليم التي ترعاها الدولة الحديثة وتمولها بالكامل من الخزينة العامة في بلادنا. ولأهمية التجربة التاريخية لمؤسسات العلم وتطورها على هذا النحو في الحضارة الإسلامية، انكب على دراستها عددٌ من كبار العلماء الغربيين ومنهم: السنيور ماريني، وماكس فان برشم، وغولد تسيهر، وبيدرسن وغيرهم. ويوضح كوركيس عواد في بحثه عن «الجامعة»، وجورج مقدسي في كتابه «نشأة الكليات ومعاهد العلم» في الحضارة الإسلامية، أن أكثر ما شغف به المؤرخون الغربيون في هذا البحث هو: تطور السلم التعليمي من الكتاتيب والمدارس في رحاب المساجد والزوايا، إلى الكليات والجامعات في رحاب الجوامع الكبرى مثل: القرويين، والزيتونة، والأزهر، وقرطبة... إلخ. وبرهن أغلب أولئك العلماء أن فكرة الوقف بعامة، وفي مجال التعليم ومؤسساته بخاصة، انتقلت إلى المجتمعات الغربية وشقت طريقها منذ أيام الحروب الصليبية في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، إلى أن استقرت ونضجت بفضل نظام الوقف في جامعات أوروبا والولاياتالمتحدة الأميركية التي تتصدر اليوم قائمة أفضل الجامعات في العالم مثل: هارفارد، وييل، واستانفورد، وكمبردج، وأكسفورد، والمعهد الاتحادي السويسري للتكنولوجيا. واليوم تقوم 43 جامعة في أوروبا وأميركا بتدريس نظام الوقف والعمل الخيري حتى مستوى الماجستير والدكتوراه. إذا تركنا التاريخ ونظرنا إلى الجامعات في العالم المعاصر، فإن أحدث الإحصاءات لسنة 2016 تشير إلى أن إجمالي عدد الجامعات في العالم هو ثلاثين ألف جامعة. ولا يزيد نصيب بلدان العالم الإسلامي من هذا العدد عن 1200 جامعة. وبحسبة بسيطة يتضح الوجه الأول لأزمة التعليم الجامعي في أمتنا الإسلامية وهو وجود نقص كمي يبلغ 80 في المئة مما يجب أن يكون، باعتبار أن إجمالي الجامعات في بلدان الأمة يفترض أن يكون نحو سبعة آلاف وخمسمئة جامعة بالنظر إلى أن إجمالى سكان العالم الإسلامي يساوي ربع سكان العالم تقريباً. يتجلى هذا النقص الكمي في وجه آخر لأزمة التعليم وهو العجز عن استيعاب من هم مؤهلين وفي سن التعليم الجامعي، اذ لا تزيد القدرة على استيعابهم عن نسبة تتراوح بين 22 في المئة و30 في المئة فقط، في حين أن هذه النسبة تصل في المتوسط إلى 50 في المئة وفق المستويات العالمية، أي أن نسبة النقص في الجامعات والمعاهد العالية عندنا التي تصل إلى 80 في المئة تقريباً، تكاد تتطابق مع نسبة العجز في استيعاب الطلاب. هناك وجهٌ ثالث للأزمة يتجلى كمياً أيضاً في ارتفاع نسبة التكدس الطالبي في كل جامعة، حيث تزيد درجة التكدس على المعدلات العالمية النموذجية (25 ألفاً لكل جامعة) بأضعاف، فإجمالي عدد الطلاب مثلاً: في جامعة القاهرة هو 187 ألفاً (بزيادة سبعة أضعاف ونصف الضعف)، وفي جامعة الملك عبد العزيز 83 ألفاً (بزيادة ثلاثة أضعاف وثلث)، وفي الجامعة اللبنانية 73 ألفاً (بزيادة ثلاثة أضعاف تقريباً)، في حين يبلغ إجمالي عدد طلاب جامعة هارفارد 26 ألفاً، وبكين 32 ألفاً، وطوكيو 30 ألفاً، وهي أعداد تقترب من العدد النموذجي وفق معايير الجودة والإبداع. تلك بعض أوجه الأزمة من ناحية الكم، أما من ناحية الكيف فثمة كثير من الدلائل التي تشير إلى أن مضمون التعليم الجامعي ذاته متدهور في أغلب بلدان الأمة الإسلامية، سواء من حيث المقررات وطرق التدريس، أم من حيث الارتباط بقضايا الواقع وسوق العمل، وأيضاً من حيث مستلزمات العملية التعليمية من وسائل متطورة، ومعامل حديثة، وورش للتدريب، ومصادر لتمويل الدراسات العليا والبحوث التكنولوجية، وما شابه ذلك مما يدخل في صلب المتطلبات اللازمة للتكوين الكيفي (المعرفي والابتكاري والإبداعي والمهاري) لطلاب الجامعات والمعاهد العليا، على نحو ما هو موجود في أغلب الجامعات الوقفية في بلدان الغرب مثل الولاياتالمتحدة الأميركية، وكندا، وبريطانيا، وفرنسا، مثلاً، وفي بلدان الشرق مثل: اليابان، وماليزيا، وكوريا، والصين، مثلاً. تتجلى أزمة التعليم الجامعي في بلادنا كيفياً ونوعياً في خلو قائمة أفضل مئة جامعة في العالم من أي جامعة عربية أو إسلامية، ولا يصل عدد هذه الجامعات في قائمة أفضل خمسمئة جامعة إلا إلى اثنتي عشرة جامعة فقط، في حين أن المفترض أن تصل إلى مئة وخمسة وعشرين جامعة على الأقل من الخمسمئة الأفضل، بالتنسيب إلى الثقل السكاني للعالم الإسلامي. أحد أبرز أسباب هذه الأزمة المعقدة والممتدة هو إصرار الدولة الحديثة في بلادنا على الانفراد بتحمل عبء تمويل التعليم، ليس لأهداف تربوية أو تعليمة وإنما لأن أغلب السلطات عمدت إلى نقل التعليم برمته من الحيز الاجتماعي والتمويل الوقفي المستقل، إلى الحيز البيروقراطي والتمويل الحكومي. كما عمدت أغلب السلطات إلى جعل التعليم من أدواتها الإيديولوجية التي تهتم بتأسيس الولاء والتبعية للسلطة، أكثر مما تهتم بصقل العقول وبناء مجتمع المعرفة. ولكن بعد أكثر من نصف قرن، اتضح أن الدولة عندنا عاجزة بمفردها عن المضي في تحمل العبء التمويلي للتعليم بصفة عامة، والجامعي والعالي بصفة خاصة. ومن هنا بدأ التفتيش عن مصادر أخرى للتمويل، فكشف التفتيش عن أن «الأوقاف» الخيرية في مقدمة هذه المصادر وأكثرها أهمية. وثمة فعاليات فكرية كثيرة يجري تنظيمها بين الحين والآخر حول دور الأوقاف في تمويل المؤسسات التعليمية ومراكز البحث. وأحدث هذه الفعاليات الندوة المتخصصة التي عقدتها جامعة مسقط في رحاب جامع السلطان قابوس الأكبر في العاصمة مسقط يوم 18 رمضان 1438/ 13 حزيران (يونيو) 2017، وكانت أقرب إلى الخلوة الفكرية (Retreat) وأدارها الدكتور سعيد الكيتاني وقدمت فيها ثلاث أوراق عمل. وجامعة مسقط هي الأحدث نشأة بين جامعات السلطنة وجرى افتتاحها العام الماضي بثلاث كليات هي: كلية الأعمال والإدارة، وكلية الهندسة والتكنولوجيا، وكلية النقل والخدمات اللوجستية. وكانت هذه الجامعة الجديدة تأسست بمبادرات وقفية قدمها عدد من رجال الأعمال العمانيين شعوراً بمسؤوليتهم الاجتماعية تجاه وطنهم وتأسياً بالمحسنين في التقرب إلى الله بحب العلم والمعرفة. ويطمح المؤسسون الى أن تكون جامعة مسقط بمستوى أرقى الجامعات العالمية التي تمولها الأوقاف في البلدان الأوروبية والأميركية. هذا بعض ما سمعته من بعضهم في الندوة المشار إليها تعقيباً على الأفكار التي وردت في الأوراق الثلاث. أولها للدكتور صالح بن ناصر القاسمي المستشار في وزارة الأوقاف العمانية، وركز فيها على دور المبادرات الوقفية في دعم التعليم في تاريخ سلطنة عمان، والثانية قدمتها وركزت فيها على المساهمة التاريخية للأوقاف في تمويل التعليم وتطوير مؤسساته التي نشأت في رحاب المساجد والجوامع، إلى أن وصلت للمعاهد والجامعات الحديثة، كما ركزت على بيان مزايا التمويل الوقفي وأوجزها في الاستمرار، والاستقرار، والاستقلال. وكانت الورقة الثالثة للدكتور كوستاس كريسو نائب رئيس جامعة مسقط، وركز فيها على الدور الرئيسي للأوقاف في تمويل أرقى الجامعات في أوروبا والولاياتالمتحدة. الأفكار والملاحظات النقدية التي تناولها المشاركون أكدت ضرورة رد الاعتبار لنظام الوقف وتجديد مساهمته في تمويل التعليم الجامعي وما قبله لعدد من الأسباب أهمها: 1 - إن نظام الوقف الإسلامي هو أفضل صيغة للتمويل الذاتي، اذ يتمتع بثلاث صفات هي سر نجاح الجامعات الكبرى التي تحتل الترتيب الأول في أفضل خمسمئة جامعة في العالم. وهي صفات: الاستمرار، والاستقرار، والاستقلال. 2 - إن للوقف إرثاً تاريخياً عريقاً في وجدان أبناء الأمة بعامة، وفي مجال التعليم بمختلف مستوياته بخاصة. ويمكن الاستفادة من هذا الإرث والبناء عليه، وتطويره بما يتناسب مع معطيات الواقع المعاصر. 3 - إن هناك جهوداً كثيرة ومتنامية في مجتمعات الأمة من أجل إحياء دور الوقف في مجال التعليم، وبخاصة بعد أن ظهرت النتائج السلبية للاعتماد على التمويل الحكومي وحده طيلة أكثر من نصف قرن مضى. وتحتاج هذه الجهود إلى الاستفادة من الدروس التاريخية إلى جانب خلاصة الدروس الحديثة والمعاصرة في كيفية توظيف فكرة الوقف في النهوض بالتعليم وبناء مجتمع المعرفة، على النحو الحاصل في كثير من جامعات البلدان الصناعية الكبرى في الغرب وفي الشرق سواء بسواء.