إنها المدينة التي تتنفس فيها الثقافة وتحيا، ملتقى الشرق والغرب، واجهة مشروع الحداثة العربية كحركة إنسانية عالمية بكل تطلعاتها الفكرية المتحررة من القيود. سُميت «سويسرا الشرق» وعاصمة الثروات الفكرية والطاقات التي تأتي إليها من كل مكان. وصانعة الحوادث ليست عاصمة لبنان فحسب بل قلب المنطقة العربية النابض بالطموح والمغامرة. إنها بيروت«المدينة التي يحلم بها العالم» وهي الصفة الجديدة التي أطلقها المعرض التذكاري الذي نظمه صالح بركات (في مقر الغاليري- شارع كليمنصو- حتى 29 تموز/ يوليو)، احتفاء باكتشاف محتويات ذاكرة وضاح فارس ومحفوظاته الغنية بالصور وملصقات المعارض والوثائق، وهو يرتكز على مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي التقطها عدسته بالأسود والأبيض ما بين أعوام 1960- 1975، تعكس المرحلة الذهبية لبيروت وهي في ذروة غليانها الثقافي، التي كان وضّاح شاهداً عليها ومرافقاً لها ومساهماً فيها. الى ذلك، قدم لنا صالح بركات جيلاً كان يحلم بالتغيير ورعيلاً من المؤسسين للحداثة من خلال مجموعة من اللوحات والمنحوتات التي شهدت على الجدال الفكري والتنوع في مرحلة من أنضج المراحل الفنية وأعمقها وأكثرها جرأة وتحرراً. مثل مجرّة كانت بيروت وكوكبة المثقفين كانوا مداراتها، استطاعت صور وضاح أن ترينا طقوس بيروت بآدابها وبروتوكولاتها ونخبها البورجوازية، شوارعها ومقاهيها ونواديها الليلية ولياليها الصاخبة، حيث فرح العيش الممزوج بالتحدي والتنافس والتنوع الفكري والسياسي. بيروت وإن فاتتنا بعض ملامح ماضيها، كما هي في وجدان وضاح فارس فلأنها أكبر من أن تُحصر، صحيح أن ماضيها لم يكن كله ذهباً ولكن شمسها كانت حرية، فقد ظلت كعصفور طليق في سماء الأنظمة العربية القمعية. لذا وجد فيها المثقفون العرب جنة أحلامهم. لكنها كانت حلماً للمبدعين من أنحاء العالم ومعتركاً ثقافياً كبيراً، سطحها يتفجر بالأفكار يومها بألف يوم «كمتحف بلا جدران» والتعبير لاندريه مالرو. معرض يروي ويبوح بالكثير عن زمن مفتون بالحرية والثورة على التفعيلة في الشعر وعلى التقاليد الاجتماعية التي تقيّد حرية المرأة وحرية التعبير. نشعر من خلاله بأن الحياة الثقافية الماضية هي حياتنا، وبأن من يحاول التقاط الضوء عبر الصورة واللوحة والقصيدة كمن يحاول أن يمسك بالماء. وبيروت كانت ينبوعاً عطشاً بما يذكر بمقولة جبران خليل جبران: «كلما جئت الينبوع لأشرب، وجدت الماء الحي ذاته عطشان، فيشربني فيما أنا أشربه». يدعونا المعرض الى استخلاص ما يضيء ويتنامى في مراجعة مسلمات الزمن المفقود الذي لم نستوعب أسئلته المفتونة بالحرية، ولم نستخلص علاماته الفارقة ومنعرجاته التي ساهمت في توليد المتخيل من الكتابات الروائية والشعرية في التجارب الفنية اللبنانية والعربية، منعرجات جمعت ما بين المحلية والانفتاح على الغرب والإشعاع العالمي. يقول يوسف الخال في أحد لقاءات خميس مجلة شعر: «القافية التقليدية ماتت على صخب الحياة وضجيجها والوزن الخليلي الرتيب مات بفعل تشابك حياتنا وتشعبها وتغير مسارها». هكذا يثير المعرض أسئلة حيال ظواهر مرحلة التحديث التي التقطتها عدسة وضاح فارس في استنطاق زمن ثقافي منساق بقوة نحو هواء الحرية. فالصور هي قبل كل شيء لحظات خاطفة من صداقات ومشاهدات عابرة ولقاءات تروي نزوات رجل عايش بعمق مراحل بناء الحياة الحديثة في بيروت الكوزموبوليتية- العربية. فهو من مواليد حلب 1940 من أب عراقي وأم سورية. عاش طفولته في بيروت، ثم سعى لدراسة الهندسة في انكلترا في مطلع الستينات، إلا أنه لم يكملها وآثر العودة الى بيروت ليغرق في متاهات آفاقها الثقافية. ظهر أول رسومه التجريدية في الأعداد الأخيرة من مجلة شعر العام 1968، كما ظهرت تصاميمه لأغلفة مجلة حوار (العام 1970) ومنشورات وملصقات غاليري كونتاكت (في العام 1972) التي ساهم في تأسيسها وإدارتها إلى جانب سيزار نمور وميراي تابت. تعاون في العام 1974 مع لجنة مهرجان بعلبك في تصميم منشوراتها، هذا بالإضافة الى تعاونه المثمر مع غاليري بريجيت شحادة التي استقدمت في العام 1969 معارض لفنانين أجانب بينهم ماكس ارنست واندريه ماسون كزعيمين من زعماء السوريالية في العالم. ولعل أبرز ما في المعرض اللقطات التذكارية النادرة التي جمعت الشاعر جورج شحادة وزوجته بريجيت في دارتهما مع ماكس ارنست وزوجته دوروثي تاننغ، وجولاتهم في أحياء بيروت القديمة وأوقات السمر التي قضوها في مراقصها الليلية، فضلاً عن الرسم الذي أهداه ماكس لوضاح كعربون صداقة، وصور لأندريه ماسون في زيارته لأروقة قصر بيت الدين. يفتح وضاح فارس صندوق أرشيف ذكرياته الذي بقي مقفلاً طيلة أربعين عاماً والذي يحتوي على أكثر من 1200 صورة، كان قد التقطها في جلساته في مقهى الهورس شو في الحمرا وخلال تردده على دور النشر وتعاونه مع المؤسسات الصحافية في بيروت وجولاته على المعارض والمسارح والجلسات الحميمة مع الوجوه الأدبية والشعرية والفنية التي نقمت مثله على الماضي والتمست طريق العودة الى الينابيع الصافية حيث الحرية الحقيقية. كان صديقاً حميماً لكبار الفنانين امثال شفيق عبود وبول غيراغوسيان ورفيق شرف ومنير نجم وامين الباشا وعارف الريس وناديا صيقلي وفريد حداد وسيتا مانوكيان وهوغيت كالان وهلن الخال. كان يصور بشغف الهواية، مظاهر الحياة الثقافية التي عاش فصولها في بيروت من دون أن يفكر بأن هذه الصور ستشهد يوماً على مرحلة حاسمة خرجت من الضوء واللمعان إلى الذوبان والتحول، وهي تدل على عالم يتقهقر لمصلحة عالم جديد يولد، وقلق لا يتوقف مع كتابات وتجارب تفتح الطرق المجهولة لرغبات تليها رغبات. كأن الزمن لم يجئ بعد كلما أخفينا عن أنفسنا وجه العالم، وان الخراب وحده ينتصر كلما ابتعدنا عن بيروت كمدينة ثقافية من نسيج رغبات العالم.