«شكله صادق»، «أسلوبه مقنع»، «طريقته لطيفة»، «كلامه واضح». هذا عن الأداء. أما التوجهات ف «عارف كل الأرقام» أو «حاسس بالغلابة» أو «فاهم عما يتحدث» أو «مدرك عمن يتكلم». لم يتبق إذن سوى التقييم، ومن ثم «طبعاً السيسي» أو «مؤكد صباحي». صباح أمس كان مطلع كوبري أكتوبر الذي يباغت دورانه جموع الصاعدين ومجموعات الراكبين بتكدساته الرهيبة اكتست جوانبه بالملمحين الأساسيين والركيزتين الأصليتين لحملة المرشح الرئاسي عبدالفتاح السيسي. الملصقات المتجاورة على الأعمدة تعكس بزوغاً دعائياً للسيسي. «معاً نبني ونحمي الدولة الوطنية المصرية»، عبارة تغازل المشتاقين إلى الوطنية الخارجين لتوّهم من براثن مشروع الخلافة الإسلامية، وهو ما يمثل عصب الركيزة التالية، حيث وعد مشتهًى وحلم مرتقب بأن «مصر لن تخضع للإرهاب». «نهيب بالإخوة المواطنين من المؤيدين لكلا المرشحين عدم التعدي على حق الطرف الآخر في الدعاية القانونية». وكأن مذيع الفترة الصباحية يقرأ ما يجول في خاطر أحدهم ممن صدمته بقايا من شعر المرشح حمدين صباحي أسفل أذن السيسي اليسرى، فساورته شكوك العداء وخالجته مخاوف الإقصاء لولا تدقيق شديد وتفنيد عميق خلصا إلى انتماء الشعر الظاهر لبقايا جولة رئاسية سابقة أكل عليها محمد مرسي وشرب عليها أحمد شفيق، اللذان خاضا جولة الإعادة في انتخابات 2012. بقايا الملصقات من زمن انتخابات فات ألّبت المواجع، لكنها في الوقت نفسه ذكّرت بأن مصر مرت في عامين بتقويم الأرض بما مرت به أمم أخرى في أعوام أطول بكثير قد ترقى إلى تقويم كوكب زحل. المارون على الكوبري يحملون بين ضلوعهم شجوناً أو أوجاعاً وأحلاماً أو كوابيس يذكّر بها ما تبقى من أعلام مصرية نجت من تخريب أياد عبثية تعكس أفكاراً جهنمية جعلت من الأعلام الوطنية الخالية من شعار الأصابع الأربعة معنى للخيانة ودليلاً على محاربة الشرعية. أنفاس الصعداء الصادرة عن مؤيدي المرشحين، سواء هذا الذي امتلأ الكوبري بصوره أو ذاك الذي ينتظر الجانب الآخر من الكوبري وصوله إلى جوانبه، تجمع أطراف الفريقين اللذين يشبه أحدهما الآخر إلى حد كبير. ورغم الشبه، وبغض النظر عن التقارب، وبعيداً من أوجه التطابق، يدور السجال وتعقد المقارنات ويتنابز الجميع بالأوصاف والعبارات والإشارات والكلمات والحوارات والمعاني، ما ظهر منها وما خفي. ولا يخفى على أحد ممن مروا أعلى الكوبري أو ممن اختاروا الطريق الأرضي، أن شعوراً عاماً يجعل محبي الخطابة والبلاغة ومعتنقي المقاومة يميلون ميلاً فطرياً إلى صباحي، في حين يجنح مفتقدو الصوت الهادئ والسكون الهادر إلى السيسي. فريق منبهر بوعود ساطعة وأحلام محلقة ونضالات سابقة، وفريق سعيد بوعود مقيدة بشروط وأحلام قريبة من الأرض وحقيقة مفزعة لكنها عارية من محسنات الطعم واللون. مجموعة ترى في مرشحها مؤتمرات جماهيرية فيها من الهتاف ما يأخذ الألباب، وتحوي من الصياح ما يشحذ الأفئدة، وتمتزج من الستينات بما يحيي سيرة ناصر. ومجموعة تكتفي بمرشح يدلي بحديث مطول بدل جولات وصولات قد تعرضه لمحاولة اغتيال هنا أو تجربة تفخيخ هناك، مؤمنة بأن سيرته الذاتية، لا سيما في الجزء الأخير منها، كفيلة بترجيح الكفة المائلة إلى «النجمة». نجومية صباحي لا تقل عن السيسي من حيث الإلمام بالمرشح والمعرفة بالمخطط، فكلاهما حاز شعبية بالتأكيد على انتهاء الجماعة، وكلاهما أعجب فريقه بالحديث عن الغلابة. وكلاهما تسددت خطاه بدغدغة مشاعر رمانة الميزان وأس الاتزان المتمثل في الطبقة المتوسطة المقهورة المغلولة، وكلاهما استدعى الهري النخبوي واستحضر الغل التعبوي بالإفراط في التعبير عن المشاعر والأحاسيس بلغة الجسد وإشارات الأعين وتحركات الأيدي، سواء كانت صياحاً وجلبة أو هدوءاً وسكوناً. وكلاهما يقدم نفسه باعتباره مرشح عصر ما بعد الإسلام السياسي، حيث الدين لله والوطن للجميع، ولا ضرر ولا ضرار من آية قرآنية هنا أو حديث شريف هناك طالما تلميحات الدعاية وعبارات الترويج وأمارات التعبئة تخلو من بطاقة الجنة أو ورقة النار. وكلاهما أيضاً جذب أحزاباً سياسية على رغم كرتونيتها، واستدعى دعماً أيديولوجياً على رغم عدم الجدية، واستجلب صياحاً هتافياً على رغم الدرامية. درامية المواقف فوق الكوبري الخاضع لموجات الشلل المروري الهادر تعني مناظرات يومية بين أنصار المرشحين، وجدالات دورية حول مصادر تمويل الإثنين، وتقويمات شعبية لأداء «النجمة» و «النسر» في هذا الحوار التلفزيوني الرخيم أو ذاك اللقاء الجماهيري الرهيب. هذه الدرامية لن تتوقف عند منزل الكوبري، ولن تندثر عند أول انفراجة مرورية، لكنها ستسري سريان نار الاشتياق لرئيس جديد في هشيم وهن وسأم وتعب ثلاث سنوات من الكر الثوري والفر المضاد وتكرار الأخطاء. عد تنازلي لمحطة مقبلة في توقيت خطير لمسار شعب يمضي وقت الانتظار في المقارنة بين هذا وذاك بناء على كلمة قيلت أو وصف منير في الطريق إلى الاتحادية.