يبدو ان العاصفة بدأت تهدأ في دبي، بعد شهور طويلة صعبة تعرضت خلالها الإمارة الى تحديات قاسية من تداعيات الأزمة المالية العالمية، الى درجة شكك البعض في قدرتها المعهودة على التعامل مع الصدمات والاستفادة منها، مثلما فعلت خلال حربي الخليج الأولى والثانية وأحداث أيلول (سبتمبر) 2001 في الولاياتالمتحدة. وكشف مسؤولون واقتصاديون ومحللون تحدثت اليهم «الحياة» ان الأزمة وصلت الى أوجها في نهاية العام الماضي ومطلع السنة الجارية بسبب شح في السيولة بعد ان سحب مستثمرون أجانب ودائع بعشرات بلايين الدولارات، إلى جانب تراجع حاد وسريع في أسعار النفط العالمية انعكس سلباً على المنطقة التي تمثل دبي مركزها التجاري والمالي. وزادت من قتامة الوضع تقارير اقتصادية غربية عن احتمال عدم تمكن دبي من الوفاء بتسديد ديون عالمية تزيد على 80 بليون دولار اقترضتها لتمويل خططها الطموحة، ما أحدث تراجعاً حاداً في أسواق الأسهم والعقارات ورفع أسعار الفائدة على القروض الى معدلات قياسية. ولكن يبدو ان الإمارة التي أذهلت العالم بقفزات نمو غير مسبوقة خلال السنوات القليلة الماضية لم تفقد قدرتها على «إدارة الأزمات»، وتمكنت من الخروج من «عنق» الزجاجة»، بحسب ما أكد محافظ المصرف المركزي الاماراتي سلطان السويدي. االمسؤولون والاقتصاديون والمحللون الذين تحدثوا الى «الحياة» أجمعوا على ان دبي بدأت بالفعل رحلة التعافي خصوصاً في الأسابيع القليلة الماضية، واستشهدوا بمؤشرات «قوية»، أهمها ارتفاع أسعار النفط العالمية وثباته على أكثر من 60 دولاراً للبرميل، وعودة المستثمرين المحليين الأجانب الى أسواق الأسهم والعقارات، وزيادة السيولة، وتراجع معدلات التضخم. وقال السويدي ان «القطاع المصرفي أوشك على عبور بر الأمان»، بعد سلسلة من الإجراءات اتخذتها الإمارة بمساعدة الحكومة الاتحادية، بينها ضخ سيولة وفيرة في المصارف لتشجيع الإقراض وضمان الودائع، واطلاق سندات بقيمة 10 بلايين دولار لمساعدة مؤسسات دبي على تسديد ديونها، ودعم الشركات المتوسطة والصغيرة. وعلى رغم انعكاسات الأزمة المالية العالمية، زادت الإمارة الإنفاق الحكومي بنسبة 42 في المئة، ورفعت الموازنة المخصصة للاستثمار في مشاريع البنية الأساسية إلى 12 بليون درهم، مقابل 9 بلايين دولار في العام الماضي، ما ساهم في تحريك عجلة الاقتصاد. وقال محافظ مركز دبي المالي العالمي عمر بن سليمان ان دبي بما تملكه من بنى تحتية مالية واقتصادية، ستتمكن من الخروج من الأزمة في شكل «أقوى مما كانت عليه». وتوقع مدير الأسواق العالمية في بنك «ستاندرد تشارترد» أشرف صوالحة، ومعه الرئيس التنفيذي لمصرف «دويتشه بنك» هنري عزام ان تتجاوز إمارة دبي الأزمة «تماماً» خلال الربع الثالث من السنة. وقال عزام: «صحيح ان دبي اقترضت لتبني مدينة، لكنها تمكنت من تشييد بنية تحتية حديثة لا تضاهيها أي مدينة في المنطقة ومعظم مدن العالم، ستحميها من أي أزمات، وستمكنها من مواصلة استقطابها للاستثمارات الأجنبية». ويقدر خبراء ان حكومة دبي أنفقت خلال السنوات القليلة الماضية ما بين 400 و500 بليون دولار، على مشاريع البنية التحتية، من شبكات طرق برية وبحرية وجوية تعتبر الأفضل في المنطقة، وربما في العالم، بالإضافة الى فنادق ومراكز للمال والأعمال والإعلام والتكنولوجيا، ما مكنها من استقطاب كبرى الشركات من جميع أنحاء العالم. بعض منتقدي دبي في المنطقة وحول العالم لاموها بسبب ما وصفوه اندفاعها الجارف لتحقيق حلم حاكمها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي يشغل أيضاً منصب نائب رئيس الإمارات ورئيس وزرائها، في بناء مدينة عالمية حديثة. وأفرز ذلك حالاً من الغليان في الأسعار ومعدلات التضخم واختناق مروري واتساع الخلل في التركيبة السكانية إذ تنكمش الأقلية من المواطنين بين قوافل الوافدين من الخارج. ولاحظ خبراء عرب وأجانب، ان نمو الإمارة بهذه السرعة، واقتحامها الأسواق العالمية وشرائها حصصاً في كبرى المؤسسات الدولية في كل القطاعات، أثارت «حسد» كثر من البلدان، وشكلت مادة دسمة للإعلام الغربي لتضخيم تداعيات الأزمة المالية العالمية على الإمارة. لكنهم أكدوا في الوقت ذاته، ان تأسيس الإمارة شركات عملاقة، بعضها أدرج في قائمة أكبر 100 شركة في العالم، ومعظمها تمكن من نشر خدماته في دول كثيرة حول العالم، منحها قوة «مضاعفة»، ومكنها من الحصول على عوائد ضخمة ستساعدها في تسديد ديونها خلال السنوات المقبلة، وتبعدها عن الاعتماد على الاقتراض من المؤسسات العالمية. وقال أحد كبار المسؤولين الحكوميين: «ان أكبر درس تعلمته دبي من الأزمة هو ضرورة تركيزها على الداخل في المستقبل»، خصوصاً على العامل البشري، للنهوض بالإمارة بعد ان استكملت تقريباً معظم بنيتها التحتية. وأشار الى ان حكومة دبي باتت تتبع الآن «نهجاً موضوعياً» في التعاطي مع أولويات العمل التنموي خلال المرحلة الحالية، إذ تراجع خططها، بما في ذلك الخطة الاستراتيجية للعام 2015، بما استوجبته التحولات العالمية وانعكاساتها على الاقتصاد المحلي، بحيث تضمن تلك المراجعات إعادة ترتيب الأولويات بأسلوب علمي ومنطقي يؤكد قدرة الإمارة على مباشرة مشاريعها التنموية الأساسية والأكثر إلحاحاً في الوقت الراهن. واعتبر المفكر الاماراتي وأستاذ العلوم السباسية عبدالخالق عبدالله ان دبي «تتمتع بأكثر من رصيد يؤهلها لتجاوز الأزمة أهمها بنيتها التحتية وإيمانها العميق بمبدأ التجارة الحرة، ومأسسة هذه الفكرة في أعمالها والعلامة التجارية التي استطاعت البناء عليها بتميز خلال الفترة السابقة». وأشار الى ان «دبي تعتبر الأكثر اندماجاً في التفاصيل الدقيقة للعولمة الاقتصادية، في المنطقة العربية. وأن هذا الاندماج، بمقدار ما اضر بدبي خلال الأزمة الحالية، فانه رصيدها للخروج بسرعة من الأزمة، وسيكون العامود الفقري لها في المستقبل». أما كبير الاقتصاديين في مركز دبي المالي العالمي ناصر السعيدي فأضاف رصيداً آخر لدبي هو ارتباطها الوثيق باتحاد الإمارات، خصوصاً إمارة أبو ظبي التي لم تتأثر بتداعيات الأزمة المالية العالمية بمقدار ما تأثرت دبي بسبب وفرة مصادر النفط لديها. وتوقع السعيدي ان يتجاوز فائض ميزان المدفوعات في الإمارات هذه السنة 40 بليون دولار في اطار سعر 60 دولاراً للبرميل. وعلى رغم ان هذا الفائض اقل بكثير من العام الماضي، حيث راكمت خلاله الدولة فوائض تجاوزت 293 بليون دولار، غير انه جيد في ظل أزمة مالية خانقة يشهدها العالم. وأشار الى ان تركيز إمارة دبي خلال السنوات القليلة الماضية، على الاستثمار في الدول الآسيوية وتعزيز التبادل التجاري معها، خصوصاً الهند والصين، سيدعم سرعة خروج الإمارة من الأزمة، وذلك في ضوء توقعات بانتعاش هاتين الدولتين أسرع من أوروبا والولاياتالمتحدة.