مع بداية الصيف، تتحول القصور الفرنسية التاريخية الى مراكز للمعارض والنشاطات الفنية والثقافية التي تطاول الماضي والحاضر والمستقبل. تلك حال قصر «فونتينبلو» الشهير الذي يبعد نحو ستين كيلومترا من باريس، ويحمل اسم غابة شاسعة كان يقصدها قبل مئات السنين ملوك فرنسا للصيد، كما أنها استقطبت في القرن التاسع عشر العديد من الفنانين القادمين من العاصمة بحثاً عن الطبيعة الخضراء والبيئة الصافية. تعاقب على قصر «فونتينبلو» كثر من ملوك فرنسا، وحافظ على محتوياته على رغم تبدّل الأحوال بعد الثورة الفرنسية، وسُجّل على لائحة التراث العالمي لمنظمة «يونيسكو» مطلع ثمانينات القرن العشرين، لأنه يجسّد العمارة الفرنسية وحدائقها في صورة متكاملة. استضاف القصر أخيراً الدورة السابعة لمهرجان عنوانه «تاريخ الفنون»، وحلّت فيه الولاياتالمتحدة ضيف شرف بمشاركة شخصيات معروفة في عالم الفن والمتاحف. غير أن مفاجأة المهرجان كانت مشاركة الفنان الأميركي جيف كونز الذي ألقى في جلسة الافتتاح محاضرة استمرت أكثر من ساعة عن مجموعته الفنية الخاصة المكونة من أعمال لفنانين مرموقين مثل بابلو بيكاسو وإدوار مانيه وغوستاف كوربيه وغيرهم، حضرها حشد من النقاد والصحافيين الذين جاؤوا الى المهرجان من باريس للاستماع إليه. وكما هو معروف، فإن جيف كونز المولود عام 1955 يتمتع بشهرة عالمية ويعتبر الفنان الأغلى سعراً من بين الأحياء، إذ تباع أعماله بملايين الدولارات وتلقى دعم رجال أعمال كبار كالفرنسي برنار أرنو، صاحب دار «لوي فويتون» للأزياء. وقد طلب الأخير من الفنان إنجاز تصاميم جديدة للحقائب مستوحاة من لوحات عالمية وقديمة، منها لوحة «موناليزا» لليوناردو دافنشي المحفوظة في متحف «لوفر». جيف كونز شخصية إشكالية بامتياز، فعلى رغم شهرته ونجاحه الباهر في بورصة الفن، فإن نقاداً كثراً يعتبرونه تجسيداً للزيف الذي بات مسيطراً على كثير من أعمال فناني مرحلة ما بعد الحداثة، والذين لمعت أسماؤهم منذ أكثر من ربع قرن بسبب تبنّي المتاحف ورجال الأعمال الكبار لهم. من الأكيد أن دعوة إدارة مهرجان تاريخ الفنون لجيف كونز في صرح تاريخي كقصر «فونتينبلو» لم تأت من فراغ ولها أهداف عدة، منها جذب الشباب وإطلاق المهرجان عالمياً، إذ لم يعد يقتصر على ما هو قديم ومكرس في المتاحف، بل صار مفتوحاً على أكثر رموز ما بعد الحداثة شهرة وتناقضاً مع قيم الفنون الكلاسيكية. ولم تخب آمال الجمهور الذي حضر محاضرة جيف كونز لأن الفنان الأميركي تميز بعفوية وحرارة في مخاطبة جمهوره، وعبّر عن سعادته بوجوده في هذا المكان التاريخي. كما عكست الشروح التي قدمها لأعمال مجموعته الفنية الخاصة التي اقتناها في مزادات الفن، معرفته بتاريخ الفنون الأوروبية وحبه لمعلمين كبار كبيكاسو ومانيه. وفي موازاة حضور جيف كونز الذي شكل الحدث الإعلامي في المهرجان، تنوعت المحاضرات واللقاءات، منها ما تناول واقع البيئة والطبيعة الذي كان الموضوع المهيمن هذا العام. وعكست النشاطات كيف أبدع الفنانون في تناولهم ورسومهم المشاهد الطبيعية، وأيضاً في تصاميم الحدائق والمنحوتات التي أُعدّت خصيصا لتكون جزءاً من المشهد الطبيعي. من المعارض المهمة المقامة في المهرجان، معرض للفنان الفرنسي جان جاك أودوبون الذي عاش في الولاياتالمتحدة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، والذي أًصبح أميركيا واشتهر برسم الطيور. وتعتبر رسومه مرجعاً في هذا المجال إذ عكست مهارة كبيرة ودقة في رصد كل الطيور الموجودة على التراب الأميركي في تلك المرحلة، ما منح رسومه بعداً وثائقياً، خصوصاً أنها أُنجزت قبل اختراع التصوير الفوتوغرافي.