في التراث العربي، ثمة قول مأثور: «الجاهل من اتّعظ بنفسه، والعاقل من اتّعظ بغيره». إذا سرنا في خط التعقّل، ألا تشكّل ضربة «وانا كراي» مناسبة لاستخلاص دروس، خصوصاً ما تعلّق بظاهرة «إنترنت الأشياء» Internet of Things؟ لماذا التركيز عليها؟ ببساطة، لأن هناك اندفاعة عربيّة لتبني الانتقال إلى ذلك النوع من الشبكات، خصوصاً في دول الخليج العربي. استدراكاً، من المطلوب تماماً الحفاظ على الشجاعة في التعامل مع معطيات العلوم والتكنولوجيا، خصوصاً التقنيات المتصلة بثورة المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة التي تمثّل ملمحاً حاسماً في المجتمعات المعاصرة. ليس المطلوب التقوقع والتخشّب، بل شجاعة الحفاظ على أعلى إيقاع في اللحاق بالمسار المتصاعد للتقدم التقني. ولا يعني ذلك عدم التفكير مليّاً ونقديّاً في معطيات ذلك المسار، على غرار السعي إلى الاستفادة من الدروس الكثيرة للتجربة القاسية التي مثّلتها ضربة «وانا كراي». إذ شكّل الاستيلاء على الحواسيب وشلّها وتحويلها رهينة في أيدي المهاجمين، ملمحاً أساسيّاً في تلك الضربة التي شملت قرابة 150 دولة. ويعني ذلك أن تلك الحواسيب خرجت عن سيطرة أصحابها، وصارت قابلة لأنواع من الاستخدامات لا تتوافق إلا مع رغبات جماعات الإرهاب الإلكتروني التي نفّذت الضربة. من البشر إلى أجهزة المنزل يستخدم مصطلح «بوت نتس» Botnets للإشارة إلى شبكات الكومبيوتر التي تتعرض لذلك النوع من السيطرة، بمعنى أنها تصبح كأنها روبوت يدار من بُعد. أبعد من ذلك، من المستطاع استخدام الحواسيب المسيطر عليها، لشن ضربات اخرى ك «هجمات شلّ الخدمة» المشهورة باسميها المختصرين «دوس» و «دي دوس». لنفكر للحظة، ماذا لو حدث ذلك لحواسيب منخرطة في «إنترنت الأشياء» التي تعتمد على فكرة الانتقال من ربط البشر عبر الشبكة إلى وضع يتميّز بربط الأشياء التي يستخدمها الناس على الشبكة؟ إذا كنت حاضراً تضع معلوماتك وبياناتك على ال «سوشال ميديا» ومخازن المعلومات على ال «ويب»، فتخيل أن سيارتك «ستفعل» الشيء نفسه في مرحلة «إنترنت الأشياء»! لا يتقصر الأمر على وضع المعلومات كلها عن سيارتك، بل يضاف إليها ما يرسله نظام ال «جي بي إس» فيها عن تحرّكاتها كلّها، وكذلك بيانات الرقاقة الإلكترونيّة التي صارت أساس التحكّم في السيارة وأعمالها كلها. تذكيراً، في العام 2015، تمكّن «هاكر» متمرس من اختراق النظام الإلكتروني لسيارة دفع رباعي وإخراجها عن سيطرة صاحبها، ودفعها إلى التوقّف وهو على مسافة مئات الكيلومترات منها! لنفكر في ما يعنيه الأمر عندما يشمل الربط مع «إنترنت الأشياء»، الثلاجة والتلفزيون وكاميرا الباب وجهاز الفيديو ونظام التدفئة والتبريد وجهاز تنظيم التيار الكهربائي، بل حتى الأجهزة الطبيّة المحمولة (سوار «فت بت» الإلكتروني مثلاً) وغيرها. أليس الأمر مدعاة للتفكير في ما تصل إليه الأخطار إذا نالت ضربة ك «وانا كراي» من الحواسيب التي يرتبط بها الناس في أجهزة قابلة للاستيلاء عليها، بل تسخيرها كشبكات «بوت نتس» في تسديد ضربات تخريب وابتزاز وجرائم تكاد أنواعها تكون بلا حصر؟ ضربات جبّارة بأثمان زهيدة! تصاعد وجود ال «بوت نتس» منذ مطلع القرن 21. وسجّل العام 2000 بداية ضربات يخترق فيها ال «هاكرز» مجموعات من الحواسيب، ويخضعونها لسيطرتهم، بل يستخدمون قدراتها في توجيه ضربات أخرى. ببساطة، عمدوا إلى استخدام الحواسيب المسيطر عليها (= «بوت نتس»)، ثم سكبوا محتوياتها الغزيرة دفعة واحدة على موقع ما، فيصبح مشلولاً بسبب عدم قدرته على التعامل مع ذلك الفيض من المعلومات والبيانات، فتتوقف خدماته كلها. وتصف الكلمات السابقة معنى مصطلح «هجمات شلّ الخدمة» Denial of Service (اختصاراً «دوس» DOS). ويرى أحد الخبراء الأميركيّين في «جبهة الحقوق الإلكترونيّة للمواطن» وهي من الهيئات المدنية النشطة في الولاياتالمتحدة، أنّ أخطار ال «بوت نتس» تتضاعف في «إنترنت الأشياء»، إذ يضع في أيدي ال «هاكرز» أعداداً هائلة من الأجهزة التي يمكن تسخيرها في صنع شبكات فائقة الضخامة من ال «بوت نتس». وعندها، تنفتح الآفاق أمام شن هجمات مخيفة الحجم من نوع «دوس» أو ما يشبهها، بل أن استعمالها في ضربة على غرار «وانا كراي» سيكون فائق الإيلام والتخريب. واستند رأيه إلى تحليل ضربة وُجّهت في خريف العام 2016 تضمّنت صنع شبكة «بوت نتس» قوامها مئة ألف جهاز متّصل بالإنترنت، استطاع ال «هاكرز» الاستيلاء عليها وتطويعها واستعمالها في توجيه الضربة. ولم يكن الأمر صعباً، لأن تلك الأجهزة كانت مرتبطة ب «إنترنت الأشياء» عبر شركة «داين» Dyn العملاقة لتقديم خدمة الوصول إلى الشبكة. وآنذاك، استهدفت الضربة موقعين ضخمين هما «تويتر» و «نتفلكس»، فلم يتحمّلاها، بل توقفت خدماتهما واختفيا عن الإنترنت لبعض الوقت! وفي ملمح يذكّر بضربة «وانا كراي»، لم يكلف الأمر المهاجمين آنذاك سوى شراء برنامج اسمه «ميراي» من تجار البرامج الخبيثة على الإنترنت! ماذا يكون الوضع إذا وُجّهت ضربة مماثلة إلى نظام الكهرباء في إحدى الدول العربية، أو مطار أساسي فيها؟ ربما ليس صعباً التفكير في «بوت نتس» بوصفها أداة محتملة في الحروب السيبرانيّة على الانترنت، ما يزيد أيضاً تعقيد النظرة إليها في سياق ظاهرة «إنترنت الأشياء»، وهو أمر يتطلّب نقاشات مديدة. الشرق الأوسط في مهبّ عواصف الحواسيب المسخّرة