تحفل فضاءات وجدران «القصر الكبير» (حي شانزيليزيه الباريسي) بكل «ما لذ وطاب» من الريحان وأطايب الزهور والورود رموزاً لجنات الأرض المنقولة إلى لوحات الفنانين طلباً للسعادة والغبطة الروحية الطبيعية، منذ القرن السادس عشر للميلاد وحتى فنون ما بعد الحداثة عبوراً بالانطباعية المسبوقة بفنون الغابات مثل مجموعة الفونتينبلو وجماعة غابات الباربيزون و «الطبيعية» بقيادة غوستاف كوربيه والمدرسة الإنكليزية. وذلك تحت عنوان: «حدائق الفن التشكيلي» بما يحويه التعبير من تورية وجناس وطباق وغيطان ومراح ومروج وخمائل وجسور وشلالات وترعات وبرك وبحيرات ومجمعات المياه الآسنة، إضافة إلى تضاريس الصخور والهضاب والتلال والأكمات والحقول ... ابتدأ العرض منذ الثامن عشر من آذار(مارس) مستمراً حتى نهاية تموز(يوليو)، متعدد الأنواع والمواد، من اللوحة إلى المنحوتة والمحفورة (أنواع الطباعة)، ثم العمارة والرسم الصناعي (الديزاينر) وغيرهما. تبدو خصوبة المعرض من العدد الكبير من أسماء نجوم التشكيل المعروضة، عدد منها نتعرف اليه لأول مرة إلى جانب: دافيد - دورير - فاتو - مونيه - بونار - بيكاسو - فراغونار - ماتيس - كليمت - سيزان وغيرهم. تصل القائمة حتى فنون البيئة مثل أعمال الثنائي كريستو وجان كلود ، عبوراً من الفن المكسيكي بلوحات الحصاد المعروفة لكل من دييغو ريفيرا وفريدا كاهلو. معرض متفائل طوباوي يهاجر من زحمة المدن الكبرى الصناعية والمعلوماتية الالكترونية وضجيجها وسمومها البصرية والسمعية، إلى رحم الطبيعة البكر الغنّاء: انعكاس أرضي للجنان السماوية الموعودة. وحيث لوحات الفنانين تترصّد مواطن السعادة الروحية والغبطة الحسية، تستسلم موضوعاتهم المختصة بالهواء الطلق والمناظر الطبيعية إلى خدر تقنيات وصناعات وفنون تصاميم حدائق القصور الملكية والساحات العامة وبخاصة الجنائن الخاصة بالساحات والتنظيم الحضري، فالقانون الفرنسي يفرض مساحة خضراء لمنتجعات الأطفال والكبار بما يفصل بين الأبراح والمجمعات السكنية القائمة بما يساوي حجمها من الأرض والفراغ مهما كان ثمنه في المناطق البرجوازية بما فيها أغلاهم وهي باريس. تحضرني في هذه المناسبة الحدائق البابلية المعلقة التي استعاد زراعتها المعماري الفرنسي الأكبر لوكوربوزييه في الأبنية الإسمنتية السكنية الحديثة. وأشهر حدائق تاريخ الفن التشكيلي في مدينة جفرني، أقصد محترف قصر كلود مونيه الذي ورثه في منتصف حياته المعمرة (مئة عام) وقضى في رحابه أسعد أيامه، وأنجز أشد لوحاته حبوراً بعد أن صمم في حديقته مستنقعات متصلة بنهر، ومزروعة بزهرة النونيفار التي كرس لمناظرها أغلب لوحاته التالية بخاصة المناظر المستديرة العملاقة التي تجمع مشاهد بيئية على 360 درجة والمطبقة في أحد الإكسسوارات الملحقة بالكاميرا (الأوبجكتيف). يعمر مونيه في حديقته الغناء المزدانة بآلاف الأنواع من الزهور بما فيها الآسيوية جسراً يابانياً مطوقاً بالأشجار الوارفة، إحياء لذكرى تأثير حدائق الفنانين هوكوساي وهيروشيج على أعماله وأعمال زملائه. قد تكون الحركة الانطباعية من أشد المراحل اهتماماً بألوان الطبيعة وانعكاساتها وتنوعها المتمثلة بخاصة في باقات الزهور والمناظر الخلوية. ابتدأت بفضيحة لوحة «الغداء على العشب» للمؤسس إدوار مانيه. حيث صور سيدة عارية ضمن جمع من الأصدقاء بلباسهم الطبيعي في الغابة القريبة من باريس مثل فانسين أو بولونيا، وانتهت بتخصص ما بعد الانطباعية أي تيار التجزيئية أو التنقيطية (الذي بدأه بيسارو)، وتحول إلى تيار مستقل ينظّر له بول سينياك أحد فنانيهم أما أبرزهم فكان جورج سورا ولوحاته الشهيرة حول التنزّه في المنتجعات العامة (البارك) حول البرك الاصطناعية. يروي بونار في مذكراته المرسومة عندما أقام لسنوات في مدينة لوكاني المتوسطية، أنه كثيراً ما كان يقوم برحلة حدائقية حول منزله. يرسم فيها بخطوط ما يثير حفيظته وعاطفته، قبل أن يدخل محترف منزله ويبدأ بالتصوير واستعادة ذاكرة ألوان رحلته الصغيرة الكونية، فهو بعكس زملائه الانطباعيين لا يصور مباشرة عن الطبيعة، ليقتنص لحظيتها الهاربة في سراب الضوء، بل يبحث عما هو خالد في الذاكرة واللاوعي والحدس. لذا تبدو مناظره أشد حميمية ملتصقة بأحلامه أكثر من يقظته. يتوازى مع زميله الكاتب بروست (الزمن الضائع) ومع فلسفة «الديمومة» للفيلسوف المعاصر له هنري برغسون. الفردوس وغيطانه في هذه الحالات معراج مسكون بالزهور والسيقان الحسية سواء الآدمية الأنثوية منها أم النباتية. وبأنواع الطيور القدسية التخيلية مثل الحجل والهدهد والطاووس والعنقاء وسواها. سينوغرافية المعرض (طريقة ترتيب مواده المتنوعة) تشبه النزهة أو الرحلة في قلب الطبيعة والغابة، أشبه بنزهة داخلية في حديقة معمرة في الخيال مع زهورها المزدانة بتشكيلات ألوان قوس قزح والمرايا المتعاكسة.