ما زال الموت يلاحق اهالي العراق منذ 2003، وما زال يحصد عشرات القتلى يومياً من دون حساب او تفريق، لكن يوم الخميس 27 أيار (مايو) الماضي كان يوم موت مختلف في بلاد الرافدين... توقفت فيه الحياة عند الاحياء ايضاً، بعدما سرى خبر وفاة عمانويل بابا داود، رجل بلغ 74 عاماً، لم يشغل مناصب سياسية ولم يقد حملات انقلابية ولم يتزعم احزاباً سياسية، فقط برع في فهم كرة القدم على أصولها، لذلك كان مفتقدو شيخ المدربين المشهور باسم عمو بابا ومحبوه من كل الطوائف والاعراق، من شيعة وسنة واكراد وآشور وكلدان وايضاً من غير العراقيين والعرب. عمو بابا نجح حيث فشلت السياسة دائماً، فوحد العراقيين حول 11 لاعباً رفعوا رأس العراق في المحافل الدولية، وصنعوا تاريخ الكرة العراقية بفضل حنكته التدريبية وبراعته في قراءة اساليب اللعب، فظل رمزاً للوطنية طوال حياته، واليوم تضرب به الامثال، والمسلمون والمسيحيون ومن كل الديانات الاخرى يرثونه على رغم انه مسيحي آشوري. توفي عمو بابا في أحد مستشفيات مدينة دهوك الذي دخله إثر إصابته بعارض صحي بعدما غادره قبل أيام عدة، وخضع فيه إلى فحوص طبية روتينية هناك. وأعلنت وفاته إدارة مستشفى «ازادي» في دهوك الواقعة في إقليم كردستان العراق، وهو خضع قبل عامين في أحد مستشفيات العاصمة الأردنية عمان لعمليات جراحية لاستئصال عدد من أصابع قدميه بسبب مرض السكري ثم سافر إلى فرنسا للعلاج هناك. وتعرض منذ بداية العام الحالي إلى أزمات صحية كانت أكثر وقعاً عليه من سابقاتها، فأثناء حضوره مطلع العام الحالي دورة كأس الخليج في مسقط، أُدخل إلى أحد المستشفيات بعد تدهور حالته الصحية ثم عاد إلى العراق قبل أكثر من شهرين. وقبل ثلاثة أسابيع، غادر بغداد إلى دهوك للعلاج، لكنه أدخل فجأة إلى العناية المركزة إثر مضاعفات صحية في القلب لكنه ما لبث أن غادر ليظهر في ملعب المدينة بصحة أفضل. رسم عمو بابا ملامح مسيرة كرة القدم في العراق لاعباً ومدرباً حتى تخطت شهرته المحلية الواسعة البلاد وجعلته من أبرز المدربين في المنطقة لتاريخه الكروي اللافت. ولد عمو بابا في بغداد في السابع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1934 وأطلق عليه أشهر المعلقين الرياضيين في العراق الراحل إسماعيل محمد لقب «عمو بابا» بعدما لفت الانتباه إلى مواهبه وقدراته الكروية المبكرة. وانتقل إلى الحبانية التابعة لمحافظة الأنبار كونه عمل في الجيش هناك في إحدى القواعد الجوية، وعاد العام 1955 إلى بغداد لينضم إلى فريق الحرس الملكي، ويمثل منتخب الجيش العراقي للمرة الأولى أمام منتخب مصر العسكري. وهو من أشهر لاعبي زمانه وهدافي العراق من الطراز الأول، واعتبر المهاجم الظاهرة في تاريخ المنتخبات الوطنية بعدما ترك بصماته الهجومية والتهديفية منذ أول ظهور له مع منتخب بلاده في الدورة العربية في بيروت ثم مع المنتخب الأولمبي في تصفيات دورة روما 1960. وكانت آخر محطاته التدريبية مع منتخب الناشئين في نهائيات آسيا عام 2000 في الأردن. وعرف بابا بأسلوبه التدريبي والتربوي الصارم مع اللاعبين حتى أصبح مصدر إرهاق وقلق لهم على رغم اعتزازهم الكبير بشخصيته، كما عرف بابا بخصوماته الحادة مع رئيس اللجنة الأولمبية والاتحاد العراقي الأسبق لكرة القدم، نجل رئيس النظام السابق، عدي صدام حسين، لتقاطعه معه بوجهات النظر في مجمل الجوانب التدريبية أدت إلى محاربته كثيراً بأساليب نفسية لم تهز شيخ المدربين. وعلى رغم تلك الخصومات، منح الاتحاد العراقي السابق عمو بابا وسام الاتحاد تقديراً لمسيرته، وهو المدرب الوحيد الذي ينال هذا الوسام الرفيع. كما منح في عام 2000 لقب «مدرب القرن العشرين»، وقاد المنتخب العراقي إلى لقب بطولة كأس الخليج ثلاث مرات من أصل أربع مشاركات قاد فيها بابا منتخب بلاده في هذه البطولة، وأحرز معه ذهبية مسابقة كرة القدم في دورة الألعاب الآسيوية في الهند عام 1982 وحصل على لقب بطولة العالم العسكرية في الكويت عام 1979 وقاد منتخب بلاده الأولمبي في نهائيات مسابقة كرة القدم في ثلاث دورات على التوالي في موسكو 1980 ولوس أنجليس 1984 وسيول عام 1988، إضافة إلى تدريبه للمنتخب المشارك في بطولة كأس العرب في الأردن عام 1988. ومن أبرز محطاته التدريبية مع منتخب بلاده قيادته في تصفيات مونديال 1990، وكذلك في تصفيات مونديال 1994، وتصفيات أمم آسيا 1996. وقاد المدرب الراحل عمو بابا بعض الأندية الكبيرة، مثل الزوراء والقوة الجوية والطلبة، ونادي الرشيد الذي يعرف الآن بنادي الكرخ، وحقق معها ألقاب البطولة. وكان وراء ظهور سلسلة طويلة من نجوم الكرة العراقية، أمثال رئيس الاتحاد العراقي الحالي حسين سعيد، وعدنان درجال وكريم صدام وأحمد راضي وراضي شنيشل وليث حسين وحبيب جعفر وآخرين. ويعد بابا صاحب الرقم القياسي في قيادة منتخب بلاده مدرباً في أكثر من 150 مباراة. وظهر بابا آخر مرة في 21 الجاري أثناء زيارته لإستاد مدينة دهوك الذي افتتح أخيراً، وأنشأته إحدى الشركات السويدية، وأشاد حينها بابا الذي التف حوله المئات من محبيه بالبنى التحتية في الإقليم. وقال في آخر لقاء تلفزيوني أثناء تفقده إستاد دهوك، بعد خروجه من المستشفى برفقة المسؤولين هناك: «أتمنى أن أرى مثل هذا الإستاد في بغداد، وأن يكون إستاد الشعب الدولي مثله». وأضاف: «كما أتمنى أن أموت في العراق وأُدفن في بلدي». مواقف نادرة وطريفة لم تخل حياة شيخ المدربين العراقيين من مواقف طريفة ونادرة، كثير منها لم ينشر، إذ ظلت تفاصيلها محفوظة بين مقربيه من الجالية الآشورية المتوزعة في أنحاء العالم، وفي لندن أسهم الزميل روميو رفائيل في رفع الغطاء عن الكثير من هذه المواقف، كونه قريباً منه ومن ابنه وشقيقه. ومن ابرز هذه المواقف عندما كان عمو بابا مع اللاعب يورا ايشايا (الذي توفي قبل سنوات في السويد، وهو أول لاعب من الدول العربية يشارك في الدوري الانكليزي، إذ كان مسجلاً مع فريق بريستول روفرز) في دورة تدريبية عسكرية في بداية عقد الخمسينات، عندما أراد تشلسي ضمه، وعندما علمت الحكومة العراقية بالأمر، أرسلت طائرة خاصة كان على متنها قائد القوات العسكرية وقائد القوة الجوية، لإعادة عمو بابا ويورا إلى العراق. وفي زيارة منتخب العراق إلى مصر لمواجهة منتخبها قبل المباراة بيوم، أصيب كابتن الفريق جميل عباس (الملقب جمولي) بوعكة صحية، فتسلم عمو بابا شارة الكابتن، وعندما بدأ يقدم اللاعبين إلى الرئيس المصري جمال عبدالناصر، وصل إلى حارس المرمى محمد ثامر الذي كان يلقب في العراق بالقط الأسود، نظراً لاقتناصه السريع للكرة، ولبسه القميص والشورت والحذاء من اللون الأسود، ويقولون للقطة في العراق باللغة العامية «بزونة»، وعمو بابا من منطقة الحبانية التي كانت معسكراً جوياً للجيش البريطاني، وحينما وصل عبدالناصر إلى محمد ثامر فقدمه عمو بابا بقوله: «سيدي الرئيس أقدم لك بزونة سودة»، عندئذ تقدم ثامر خطوة إلى الأمام وقال: «سيدي اسمي محمد ثامر الملقب بالقط الأسود». كان من عادة عمو بابا ان يرتاح في البيت قبل أيام المباراة، وعشية هذه المباراة ضد مصر أقيمت حفلة عشاء على شرف المنتخب العراقي، وكانت ضيفة الشرف المغنية الشهيرة أم كلثوم، وقبل أن تبدأ الغناء نظرت إلى اللاعبين، فلم تر عمو بابا بين الحضور، فسألت عنه فقالوا لها إنه يرتاح، لأن لديه مباراة كبيرة غداً، فامتنعت عن الغناء وقالت: «لن اغني إذا لم يكن صديقي حاضراً هنا»، فأرسلوا سيارة خاصة لجلب عمو بابا وبدأت أم كلثوم الحفلة، ويقال ان ماري منيب كانت لا تفارقه عندما يسافر إلى مصر. في نهاية الستينات أقيل عمو بابا من تدريب المنتخب العسكري العراقي فتحدى المدرب الجديد بأنه سيشكل فريقاً من منتسبي الجيش العراقي من الذين لم يمارسوا كرة القدم في حياتهم ويدربهم ثلاثة أشهر وسيفوز على المنتخب العسكري. المدرب الجديد قبل هذا التحدي... فذهب عمو إلى الطباخ والسمكري والفنيين وغيرهم ممن لم يمارسوا كرة القدم، ودربهم ثلاثة أشهر وفازوا على المنتخب العسكري العراقي 3-1 بعدما كانوا متأخرين في الشوط الأول صفر-1.