حين هدد تنظيم «القاعدة» باستهداف الكنائس المصرية ما لم تفرج الكنيسة عن زوجتي قسين ادعى أنهما محتجزتان في الأديرة بعد إسلامهما، هونت السلطات من جدوى هذا التهديد رغم أنه تزامن مع مجزرة نفذها التنظيم في كنيسة «سيدة النجاة» في بغداد في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي على اعتبار أن تنظيم «القاعدة» لا وجود له في مصر، غير أن الهجوم الذي استهدف كنيسة القديسين في الإسكندرية في الساعة الأولى من العام الجديد أثار مجدداً التساؤلات حول وجود خلايا نائمة تابعة للتنظيم تعمل في مصر. ورغم أنه لا يوجد دليل على أن ل «القاعدة» وجوداً تنظيمياً في مصر إلا أن هذا الهجوم الذي تشير الدلائل كافة إلى تورط التنظيم فيه يؤكد أن «فكر القاعدة» على الأقل بات له موطئ قدم في «أرض الكنانة». وسبق أن هددت «القاعدة» قبل نحو شهرين باستهداف الكنائس المصرية بعد أن أمهلت الكنيسة «يومين» للإفراج عن «أسيرات مسلمات» في أديرتها، وهو التهديد الذي لقي إدانة شعبية ورسمية حادة وجاء متزامناً مع تظاهرات قادها سلفيون هاجموا الكنيسة المصرية ورأسها بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقصية البابا شنودة احتجاجاً على احتجاز زوجتي قسين تردد أنهما أسلمتا. ومثل تهديد «القاعدة» تطوراً نوعياً في طبيعة المشكلات الطائفية التي تتفجر من آن لآخر في مصر، إذ اعتاد المصريون على التعامل مع مثل هذه المشكلات لكنها المرة الأولى التي تدخل فيها «القاعدة» على خط «التوتر الطائفي» الذي يغذيه ترحيل حل الملفات الشائكة واعتماد «المسكنات» لتهدئتها من دون حل جذري. وسعى مسؤولون ومحللون إلى التقليل من شأن تهديد «القاعدة» لكن تفجير كنيسة القديسين جاء بمثابة الصدمة التي أعادت ترتيب الأوراق وجعلت من السؤال حول وجود «القاعدة» في مصر تساؤلاً جدياً. سعى التنظيم حثيثاً لاختراق مصر، إلا أن محاولته باءت بالفشل. فالتنظيم الذي أعلن في العام 1998 كان للمصريين باع طويل في تأسيسه، إذ كان تنظيم «الجهاد» المصري بمثابة لبنته الأساسية واعتلى القيادي في «الجهاد» المصري، أيمن الظواهري، قيادة «القاعدة» بعد مؤسسه أسامة بن لادن. ونشرت معلومات عن قيام الظواهري في العام 2006 بتأسيس فرع للقاعدة في مصر يتزعمه القيادي في الجماعة الإسلامية محمد خليل الحكايمة ويضم مجموعة من «الثابتين على العهد» في الجماعة، لكن المعلومات لم تتأكد على أرض الواقع كما أن «تنظيم القاعدة في أرض الكنانة» الذي نشط من خلال الإنترنت فقط سرعان ما توارى، إذ لم يقم بأي نشاط ميداني يؤكد وجوده على أرض الواقع. وانتهى أمر الخلية الوليدة بوفاة الحكايمة في العام 2008 في غارة أميركية على منطقة القبائل الباكستانية على الحدود الأفغانية، الأمر الذي أقرت به «القاعدة» في العام 2010. الإنترنت للتواصل غير أن السلطات المصرية دأبت في السنوات الأخيرة على إعلان تفكيكها خلايا إرهابية مرتبطة بتنظيم «القاعدة». ومن ذلك ما جرى من اعتقالات في العام 2006 لمجموعة من الأشخاص في محافظتي الإسكندرية والبحيرة بتهمة الارتباط بأفرع للقاعدة من خلال الإنترنت، وفي تموز (يوليو) من العام 2007 اعتقلت السلطات العشرات في محافظتي بني سويف والقليوبية بتهمة الانتماء للقاعدة والسعي إلى تشكيل خلية تابعة لها في مصر بالتنسيق مع عناصر خارجية عبر شبكة الإنترنت وأخيراً توقيف أعضاء خلية «التكفير والجهاد» في العام 2009 التي هاجمت محلاً للمجوهرات يملكه قبطي في منطقة الزيتون في القاهرة خلال العام 2008. وأثبتت التحقيقات أن عناصر الخلية «يتواصلون مباشرة من خلال شبكة الإنترنت مع عناصر وتنظيمات إرهابية في الخارج». وكذلك كشف وزير الشؤون القانونية والمجالس النيابية مفيد شهاب في العام 2008 في معرض طلبه من البرلمان تمديد حال الطوارئ أن الأجهزة الأمنية ضبطت خلايا عدة مرتبطة بتنظيم «القاعدة» في عدد من المحافظات ولكن لم يعلن عن ذلك الأمر. اللافت أن السلطات حرصت على نفي أي وجود لتنظيم «القاعدة» في مصر وأشارت فقط إلى ارتباط هذه الخلايا بالقاعدة من خلال الإنترنت من دون روابط تنظيمية. وهو أمر يتوافق مع فكر الحكايمة عن «الجهاد الفردي والخلية الفردية» القائم على إيمان الفرد أو الأسرة الواحدة بفكرة الجهاد ثم التحول إلى خلية بذاتها تخطط وتمول وتنفذ ما يصعب على أجهزة الأمن اختراق هذه الخلية خصوصاً في ضوء سهولة تحديد أولويات التنظيم في ظل إعلانها على شبكة الإنترنت وكذلك سهولة تكوين وسيلة الهجوم، إذ تنتشر على الشبكة الإلكترونية مئات المواقع التي تشرح باستفاضة كيفية صنع المتفجرات باستخدام مواد بسيطة ومتداولة. أسلوب «القاعدة» ويرى الرجل الثاني في الجماعة الإسلامية في مصر ومنظرها ناجح إبراهيم أن تنظيم «القاعدة» يقف وراء الهجوم الذي استهدف كنيسة القديسين. وقال ل «الحياة»: «هذا أسلوب القاعدة، اللعب على أوتار الفتن الطائفية»، مشيراً إلى أن التفجيرات من بنات أفكار القاعدة «فالحركات الإسلامية الراديكالية في مصر لم يسبق لها أن استخدمت التفجيرات»، غير أن إبراهيم يوضح أن «القاعدة لم تعد تنظيماً بالمعنى المتعارف عليه، ولكن أصبحت فكرة مدسوسة في شبكة الإنترنت، فلم يعد للقاعدة خلايا عنقودية (...) التنظيم ترك هذه الفكرة بعد الضربات المتوالية التي وجهت إليه في إطار ما يسمى الحرب على الإرهاب». ورجح إبراهيم أن شاباً مصرياً متعاطفاً مع فكر «القاعدة» أقدم على تنفيذ هذه العملية. وقال: «قيادة القاعدة من الممكن ألا تكون أصدرت أوامر باستهداف الكنائس في مصر، ولكن بعد تهديد التنظيم خطط أفراد مقتنعين بفكره لتنفيذ التهديد، خصوصاً في ظل إتاحة سبل صنع المتفجرات على الإنترنت باستخدام مواد بسيطة». واعتبر إبراهيم أن «القاعدة» باتت «جماعة مفتوحة، ينضم لها من لا تعرفه القيادة ويخرج منها من لا تعرفه، وعديد من العمليات تنفذ بمعرفة قيادة التنظيم أو من دون علمها، فموضوع مركزية القرار انتهى في القاعدة منذ فترة، وأصبح الأمر يعتمد على المبادرة الذاتية بدلاً من انتظار التعليمات». وإن كان خبير الجماعات الإسلامية في «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» عمرو الشوبكي يتفق مع إبراهيم في أن «القاعدة» مسؤولة عن التفجير وإن لم تتبنه في بيان صادر عن التنظيم، إلا أنه يرى أن الأمر لا يتوقف عند حد التعاطف مع «القاعدة» وتبني أفكارها من خلال شبكة الإنترنت ويشير إلى أن ثمة علاقة تنظيمية تربط المنفذين ب «القاعدة». وقال الشوبكي ل «الحياة» إن «هناك أصابع للقاعدة في عملية تفجير الكنيسة، لكن ليس معنى ذلك أن التنظيم بات له فرع في مصر، فالقاعدة لم تعد تبني تنظيمات كبرى في معظم دول العالم، لكنها تحقق اختراقاتها من خلال شخص مثل النيجيري عمر فاروق الذي سعى إلى تفجير طائرة»، مضيفاً: «باستثناء العراق واليمن والصومال وهى دول فيها مشكلة في قدرة الدولة على بسط سلطاتها لا تجد للقاعدة وجوداً منظماً»، موضحاً أن «بصمة القاعدة في تفجير الإسكندرية التي تتضح من حجم التفجير وأسلوبه لا تعني أن التنظيم بات له وجود في مصر يشبه تنظيم الجهاد أو الجماعة الإسلامية، لكن الأمر يمكن أن يقف عند حد خلية تبنيها القاعدة لا يتجاوز عدد أفرادها أصابع اليد الواحدة نجحت «القاعدة» من خلالهم أن تخترق الاحتياطات الأمنية المصرية»، لكنه رجح أن يكون هؤلاء الأشخاص مرتبطين بقيادة القاعدة لأن «العملية فيها درجة أكبر من الاحترافية فضلاً عن إعلان القاعدة عن العملية قبل شهرين، وهذه المرة احتمال قائم أن تكون هناك خلية صغيرة تابعة للقاعدة تعمل في مصر (...) في السابق كنا نتحدث عن مجموعات متعاطفة مع القاعدة أو مرتبطة بها فكرياً، لكن الآن بعد تنفيذ التنظيم تهديده يتضح أن هناك علاقة تنظيمية». وكان وزير الداخلية المصري حبيب العادلي أكد أن الهجوم تم باستخدام عبوة ناسفة بدائية الصنع محمولة في حقيبة أو حزام ناسف، ما يشير إلى أن منفذي الهجوم أقدموا على تصنيعها بأنفسهم وربما من خلال الاستعانة بمواقع الإنترنت.