عندما كنت جالساً إلى جانب زميلي الدكتور عماد أبو غازي، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، بوصفي رئيس اللجنة العلمية للإعداد، في افتتاح الدورة الأخيرة من ملتقى القاهرة للإبداع الروائي، كنت أريد أن أبدأ بشكره على جهوده الخلاقة في تطوير رسالة المجلس الأعلى للثقافة، وعلى إضافاته التي ينبغي تحيته عليها، ولكني قبل أن أبدأ الكلام تطلعت إلى الحضور، ولم أملك نفسي من تذكر الدورة الأولى لهذا الملتقى التي انعقدت عام 1998، وكان موضوعها خصوصية الرواية العربية، وتطلعت إلى الحضور، متذكراً الشخصيات التي كانت حاضرة افتتاح الملتقى الأول، فشعرت بفقد الوجوه التي رحلت عن المشهد الإبداعي العربي، بعد أن ملأته إبداعاً ونشاطاً وعطاء. وتذكرت رحيل نجيب محفوظ الذي أرسل كلمته التي قرأها محمد سلماوي في حفل الافتتاح، وعبدالرحمن منيف الذي حصل على الجائزة الأولى للملتقى، وكان ينافسه عليها بقوة إبراهيم الكوني، وكذلك إحسان عباس الذي كان رئيس لجنة التحكيم، وفتحي غانم الذي كان رئيس المؤتمر ورئيس لجنة القصة في ذلك الوقت، وشكري عياد وهو من النقاد البارزين الذين أثروا جلسات الملتقى بأفكارهم، ومؤنس الرزاز الذي رحل قبل أن يكمل عطاءه الواعد، وفؤاد التكرلي، ومحمد شكري، والطيب صالح الذي حصل على جائزة الملتقى في الدورة قبل السابقة، وشعرت بالحزن لغياب هؤلاء الأحباب، فلم أملك سوى أن أذكرهم بالتقدير، وأن أطلب من الحاضرين الوقوف دقيقة حداداً تحية لذكراهم، وتقديراً لحضورهم المستمر. ولم أستطع وأنا أقرأ الفاتحة وأترحم عليهم سوى تذكر الأحباب الذين رحلوا عنا، قبل أن يبدأ الملتقى، وقبل أن تنتهي هذه السنة التي ازدادت كآبة برحيلهم محيي الدين اللباد الرسام ومصمم الأغلفة نادر المثال، ونصر حامد أبو زيد شهيد التخلف الفكري الذي دفع ثمن اجتهاده غالياً وعاش في منفاه الاختياري إلى أن عاد ليدفن في قريته، وأسامة أنور عكاشة الذي صنع للدراما التلفزيونية ما صنعه نجيب محفوظ للرواية العربية، وفاروق عبدالقادر ناقد الأدب النزيه الذي كان شجاعاً إلى درجة الكشف عن كل زيف أدبي أياً كانت سطوة صاحبه، وإدريس على ذلك النوبي الجميل طيب القلب الذي كان يكتب ما يفيض به قلبه في تلقائية نادرة، ومحمد عفيفي مطر الذي كان علامة فريدة في الشعر العربي المعاصر، ومحمود السعدني الصحافي الثائر الذي يذكرك بعبدالله النديم والذي لم يكن هناك مثيل لقلمه الساخر، ومحمد عبد السلام العمري الذي لا أزال أشعر بالتقصير النقدي في حقه، وعبد المنعم عواد يوسف الذي كان من جيل صلاح عبد الصبور الذي أكد وجود القصيدة الحرة وعندما جلست وانتهت دقيقة الحداد تذكرت وجه صديقي أحمد البغدادي أستاذ الجامعة الكويتي الذي حكمت عليه محكمة كويتية بالسجن لمدة شهر، بسبب القضايا التي رفعها عليه المتطرفون الإسلاميون في الكويت، ومحمد عابد الجابري الصديق المفكر الذي كنت أتفق وأختلف معه، لكني ظللت أرى فيه ونصر حامد أبو زيد أبرز مفكرين عقلانيين في مجال الخطاب الفلسفي، وكدت أضم إليهما حسن حنفي - مد الله في عمره - لولا تناقضاته التي جعلته أشبه بالأب ياناروس في رواية كازنتزاكس المشهورة «الإخوة الأعداء» ولا أزال أعتقد أن تأثر نصر حامد أبو زيد الباكر بالمعتزلة هو الذي باعد بينه والإخوان المسلمين، وقارب بينه وفلاسفة الإسلام العقلانيين الذين مضوا بعد المعتزلة بأشواط، وذلك في موازاة محمد عابد الجابري الذي تأثر بالفلسفة الرشدية، وتعلم منها انضباط المنهج والمنظور، خصوصاً بعد تأثره بنظريات الخطاب الفرنسية. والحق أنني أكملت كلمتي في جلسة الافتتاح، ولم أستطع الخروج من مناخ الأسى الذي سرعان ما انقلب حزناً غامراً، جعلني أغادر مبنى الأوبرا، بعد جلسة الافتتاح مباشرة، من دون أن أتبادل التحية مع عشرات الروائيات والروائيين، والناقدات والنقاد من أصدقائي المصريين والعرب الذين حضروا جلسة الافتتاح، وكنت في شوق إلى لقياهم. وانصرفت إلى المنزل، ودخلت إلى غرفة نومي على الفور، منهكاً صحياً بسبب أزمة حساسية صدرية لم تتركني إلى النوم، وأدخلتني في مشاعر لا تعرف الفرح، بل على النقيض، بمشاعر تملؤني بهواجس قاتمة، يعرفها من جاوز سن الخامسة والستين، ويهدّه صدر معلول وبرد لا يعرف الرحمة وظللت أسير هذه الهواجس إلى الأمس، ولم أخرج منها إلا بعد أن لهوت مع حفيدتي لي لي (على اسم زهرة الزنبق). ولكن حفيدتي أفلحت بمرحها الطفولي في إخراجي من الشعور بالكآبة الذي تركه تطاول وتكاثر حضور الموت الذي حصد أحبابي، وإحساسي بفقد الأحبة، على امتداد هذا العام الكئيب المنصرم الذي أدعو الله إلى أن يذهب إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فيما تقول الأمثال العربية القديمة وهو عام أبى أن يرحل إلا بعد أن ترك لمصر كارثة رهيبة، تحقق واحدا من تهديدات "القاعدة"، أخبرني بها الأصدقاء قبل ذهابي إلى النوم بعد منتصف الليل، فقد تم تفجير سيارة مفخخة، وأدى الانفجار إلى وفاة ما يزيد على العشرين، وعدد محزن من الجرحى، كانوا خارجين من الاحتفال برأس السنة الجديدة من إحدى الكنائس في الإسكندرية وقد نمت، وأنا أحلم بهذا الكابوس الذي جعل نومي قلقاً، وأحلامي أكثر سوداوية، تنوشها كوابيس مرعبة واستيقظت في الصباح لأكون مع أسرتي، تلهو بيننا حفيدتي التي لا يجاوز عمرها خمس سنوات، متقافزة، ضاحكة، لا تسكن في مكان، كأنها فراشة تبشر بصباح جديد، ونهاية عام ثقيل الوطأة ولم تتركني أدلف إلى غرفة مكتبي إلا بعد أن عرضت على الرسومات التي رسمتها، وتحوي فراشات وزهوراً وطيوراً بهيجة، ولم تسمح لي بالمغادرة بعد حديث الإفطار إلا بعد أن انتزعت الضحكات مني، كأنها الأمل الذي ينبثق، دائماً، وسط اليأس أو الكآبة. وها أنذا أجلس إلى مكتبي، وأخط بقلمي هذه الصفحات، وأكتبها مستسلماً لمشاعري، كأني أريد أن أغسل عن نفسي أدرانها، وأقول لموجات الأسى والحزن حسبك، فإن طائر الصباح الذي أخذ عن شمسه دفأها، أخذ يرفرف في المكان، ليقول لي إن بعد الليل فجراً مشرقاً وها أنت، اليوم، في بداية عام جديد فاستسلم للفرحة التي حاولت أن تسيطر عليك، فكل أحبابك الذين تداعت عليك ذكريات فقدهم، لم يمت منهم سوى الجسد الذي سيلحق به جسدك، حين يأتي الوقت، لكن أعمالهم وإبداعاتهم باقية، موجودة، متواصلة، فمن الذي يستطيع أن ينسي نجيب محفوظ، ولا تزال كتبه بين جميع الأيدي، وذكريات خفة دمه وتعليقاته اللماحة تتداعى على ذهنك؟ وترتفع الشمس في السماء، ويدخل إشعاعها إلى غرفة مكتبي، فأتطلع إليه، وأذكر الجلسة الأخيرة لي مع نجيب محفوظ، حيث أوصاني بالاهتمام بالشعر، حين كنت لا أزال أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة، وطلب أن أعقد ملتقي له في موازاة ملتقي الرواية وترد على ذهني الجلسة الأخيرة، بحكم التداعي، مع إحسان عباس الذي كنت أكن له مكانة خاصة، في منزله في عمّان، قبل موته بشهر، وهو يسرد على من الذكريات الطريفة ما جعلني أضحك وأطمئن عليه، وأعرف أنه يوشك على البُرء من مرضه، ويعاود نشاطه العلمي خلال أسبوع أو أسبوعين على الأكثر، ولكن يأتيني نعيه بعد وصولي القاهرة بأسبوع، وأعرف من خلال أصدقاء «الحياة» خبر موته، كي أرثيه بما يليق بتلميذ يحترم واحداً من أهم الذين عرفتهم عوالم البحث الأدبي، والترجمة، فضلاً عن تحقيق التراث. وتقتحم ذاكرتي بسمة إدريس على الطيبة التي تفترش وجهه النوبي، وأنا أقول له أهلاً بالمجنون، فقد كان مندفعاً مع مشاعره العفوية التي كانت تقوده إلى أغرب الأفعال أما قلمه فلم يكن يعرف سوى الكتابة الصادمة مهما كان تأثيرها وقد عرفته بعد أن قرأت له رواية «انفجار جمجمة» التي تحمس لها معي فتحي غانم، وكتب لها مقدمة طبعتها الأولي التي نشرها المجلس الأعلى للثقافة وما أكثر ما كانت فرحته حين كتبت عن رواية لاحقة له في «الأهرام» القاهرية، وأخذ على عاتقه إقناعي بأن أقرأ بقية إنتاج أقرانه من كتاب النوبة مثل يحيى مختار وحجاج أدول بعد أن عرف إعجابي برواية «الشمندورة» لمحمد خليل قاسم التي تدور أحداثها في النوبة والتي دفعت جيل إدريس على إلى مواصلة الكتابة عن هذا الجزء العزيز من أرض مصر الذي أهمله الشمال، ولم يقدم له الرعاية الواجبة، الأمر الذي جعل كتابة مبدعي النوبة تتميز بسمات مائزة، خصوصاً عندما تثري هذه الكتابة حضورها بميراث طويل من الشعائر والطقوس والمعتقدات والمأثورات الشعبية في لغة خاصة مائزة. وهل أنسى رحيل أسامة أنور عكاشة الذي أوجع قلبي، وها أنذا أذكر مقاله الجميل الذي كتبه عني واصفا إياي بأني «المشاعلي» وهي صفة تطلق على من كان يشعل الفوانيس في الحواري والأزقة في مصر المملوكية، قبل هبوط الظلام وقد تأثرت بعد قراءة المقال، وهاتفته قائلاً بل أنت المشاعلي يا أسامة بإبداعاتك التي وقفت في صف الاستنارة دائماً، دفاعاً عن العقل، وحماية لفكر التقدم وإبداعه المناقض للضرورة في سبيل الحرية، وتذكيراً بالقيم الناصرية الخاصة بالعدل الاجتماعي. والحق أنني غرقت في التداعيات التي تربطني بكل هؤلاء الأحبة، وبقدر ما أفرح بتذكر تفاصيل علاقاتي بهم، أحزن برحيلهم عني في عام واحد، فأفتقدهم، ويملؤني شعور حزين بأني لن أطلب أي واحد منهم بالهاتف، كي أتحدث معه، شاكراً، ناقماً، فرحاً، مهنئاً على عمل، صريحاً مثل صراحتهم في كل الأحوال، وها هي صور اللباد الفنان العبقري طويل القامة كعبد الناصر، وعدلي رزق الله بلحيته وابتسامته الماكرة وضحكته الأكثر مكراً، وأسامة أنور عكاشة الذي يحرك يديه عندما تأخذه الحماسة، ومحمد عفيفي مطر الذي كنا نلعب، طوال صداقتنا، لعبة القط والفأر، ومحمود السعدني العمدة الذي ما كان يدع لأحد فرصة للكلام في جلساته، ومحمد عبد السلام العمري الحساس الرقيق الذي يشكو عدم كتابتي عنه، ومحمد عابد الجابري الذي كان يغضب عندما كنت أقول له أنت تنحاز لفلاسفة المغرب على حساب فلاسفة المشرق، وأحمد البغدادي الذي كتبت عنه مدافعاً ومهاجماً خصومه الإظلاميين، فظل يذكرها لي طوال حياته أما نصر حامد أبو زيد رفيق العمر، فقد ترك جرحاً لن يبرأ إلا بعد أن ألحق به، في عالم آخر أشد عدلاً وإنصافاً، وبالتأكيد أشد احتراماً للعقل الذي هو حجة الله على خلقه، وسوف أخاطبه من جديد قائلاً ها نحن يا عم نصر تخلصنا من أدران عالم لم يعرف العدل، وظل يعادي العلم، ويؤثر الظلام على النور، فدعنا نعش في النور معاً، ونبحث عن بقية الذين سبقونا في الرحيل وتنقطع أفكاري مع اقتحام حفيدتي غرفة المكتب، سائلة هل يمكن أن تعطيني ظرفاً خالياً يا جدو حتى أضع فيه رسومي؟ فأتوقف عن الكتابة، وأعطيها ما طلبت وأفرح بأنها موجودة معنا، في البيت، باسمة، مشيعة الفرح حولها، دافعة إيانا، من دون أن تدري، إلى أن نستقبل على براءة وجهها عاماً جديداً، وننسي عاماً كئيباً، ونأمل أن يكون العام الجديد أفضل من العام الكئيب الذي مضى بلا رجعة، فيما أدعو وأتمنى من الله.