لا يليق وصفٌ بقصائد الفلسطينية سوسن غطاس الأولى، مثل الأناقة. هذه الجليلية التي تعيش في «الرّامة» قرب عكا، تأتينا بالشعر من جدلية العلاقة مع طبيعة تذرف سحرها وبهاء مشاهدها في مساحات الروح، فتمنح مخيلة الشاعرة مدى أكثر اتساعاً، وجموحاً لا تحدّ منه البساطة التي كتبت بها قصائدها. «على متاهات الدنى»، مجموعة شعرية تأخرت كثيراً عن موعد صدورها، ولكنها إذ أتت أخيراً، منحتنا متعة قراءة لا تتعثر في وهن البدايات أو كتاباتها الملهوفة العجولة، فسوسن غطاس عرفت طريقها للشعر عبر تجريب طويل، ومعايشة جدلية للشعر، وهي التي نشأت في «الرامة» الجبلية، القرية التي أعطت شاعراً بحجم سميح القاسم وفنانة في بهاء كاميليا جبران. «رامة» السيد المسيح تمنح سوسن غطاس هواء الشعر الذي يهبّ من صفحات ديوانها ممتزجاً بخضرة الكرمل، وزرقة بحر عكا، وروح الحياة المتجدّدة، والطافحة برغبات قصوى لتأكيد الانتماء للأرض في زمن عابث بكل شيء، لشاعرة مارست الغناء في جوقة «يعاد» التي عملت في الجليل، وأخذت اسمها من رواية اميل حبيبي الشهيرة «المتشائل». «على متاهات الدنى» بوح غير تقليدي، تؤثثه الشاعرة بمفردات متداولة ومألوفة، لكن ما يميّزها بالذات هو صعودها إلى ذرى رؤية تنكشف أمامها روح الشاعرة الداخلية، فقصائد هذه المجموعة الأولى أقرب لمونولوج دافئ، تنثال خلاله سردية شعرية عابقة بحب الحياة، وبأريج فصولها المفتوحة على الجمال والحب: «اغفر لمقلتيّ/ إن لم تصدحا/في هذا الأفق الدامي/أو ترقصا فرحا/إذا مستهما/نظراتك التائهة/ربما العمر يقلّ/من تحت/ثنايا وسائدي/ويترنح في حلته البهيجة/كي يخفي/خسوف القمر». سردٌ شعري يتنصّل من أية تركيبية، ويعلي شأن فرادة الناي ووحدانيته. أقول سرد يتأنق بالبوح في غير ما اقترابات حسّية، سوى بتلك الأناقة التي إذ تمتحن بريقها، تفاجئ قارئها بحميمية جملتها الشعرية، كما بجماليات فنية ذات ظلال تترقرق وتتهادى كنسائم لا تخدش ولا تصدم بمفاجآت حادة، أو نبرة مرتفعة. قصائد كتبتها شاعرتها بالخفوت، وبحبر الهمس الهادئ، وإن يكن هدوءاً يثير فينا فتنة الفن، وغموض أسبابه: «لا معنى لأي كلام اليوم/ولا لمفردات/أزيل الستار/عن بقعتي الرمادية/فتنبلج صور معتقة» هي قصائد تقارب الطبيعة، وتتلون بألوانها، وهنا بالذات نعثر على مرايا كثيرة تعكس صور الشاعرة ذاتها، في حالاتها اليومية، كما في جموح مخيلتها واشتعال ذاكرتها اليقظة. سوسن غطاس التي تكتب بهذه اللغة البسيطة لا تتنازل عن نضارة الجملة الشعرية، وحضور مشاهدها، من خلال رسم جزئيات وتفاصيل، في حركتها وجموحها. قصائد تذهب بنا إلى مغايرة شعرية فلسطينية، إذ لا تلامس الشاعرة موضوعات تقليدية يعلوها غبار الشعارات، ولا العناوين العامة. القصيدة طوع المشاعر الذاتية ومكابدات الروح، خصوصاً وهي المرأة الشاعرة التي تترك إشارات من تلك العناوين العامة، ولكن في تكثيف ينزع منها صخبها التقليدي. قصائد «على متاهات الدنى» ماء عذب، تأتينا به شاعرة من هناك... من حفيف الأشجار، وقرع نواقيس ليلة الميلاد، فتدفئ ليالينا الباردة بحميم الشعر والجمال.