يستغرب البعض أن أتناول بالنقد كبار الفلاسفة، من ذوي السطوة على العقول، كأرسطو وديكارت وكنط وهيغل... يكفي أن تذكر الواحد من هؤلاء أو أن تستشهد بقوله، كي يصبح كلامه حجة لا جدال فيها. وقد تشكلت عندي عين نقدية تتيح لي أن أقرأ في نص الفيلسوف ما لم يُقرأ، أو ما لم يرد في ذهن مؤلفه. هل أتخلّى عن عيني هذه، وهل بوسعي أن أفعل ذلك؟ غير أني، إذ أشعر بالتحرُّر من وصاية الفلاسفة على عقلي، فإني اعترف بإنجازاتهم التي أسهمت في تكوين شخصيتي الفكرية والتي استثمرها في تسليط الضوء على مآزقهم. وهذه المآزق قد تنجم عن دعوى احتكار الحقيقة بإنتاج تصورات ذهنية (مفاهيم، نظريات، آراء) مطابقة تمام المطابقة للوقائع العينية. وقد تنجم من كون أنظمة المعرفة وصيغ العقلنة ومناهج المقاربة، يمكن أن تستهلك وتحتاج إلى من يقوم بتجديدها، على وقع الأزمات أو في ضوء التحديات. مع ذلك، فأنا أميّز في القول الفلسفي بين برهانية الأطروحة وكثافة العبارة، بين ما يقوله المؤلف، وما يجهله من قوله، أو ما يفلت من سيطرة العقل وقبضة المنطق. إذاً، أنا أفرّق بين النص ومؤلفه. فللنّص كينونته المستقلة كواقعة خطابية، رمزية، مفهومية، تنتج حقيقتها وتولّد أثرها، في ما يتعدى مقاصد المؤلف وما أراد البرهنة عليه. والنص لا يتطابق مع مقولته من حيث علاقته بالحقيقة، كما لا يتساوى مع نفسه من حيث علاقته بالمعنى. لذا فهو يستعصي على الاختزال والتصنيف إلى اتجاه أو مذهب أو مدرسة. إنه يفتح علاقة مع الحقيقة، بقدر ما يشكّل إمكاناً للتفكير. قد يقرأ فيه القارئ، المحلل، ما لا يدركه القائل من قوله أو ما يستعصي عليه فهمه. وأياً تكن القراءة، فإنها لا تقبض على المعنى، تماماً كما أن النص لا يقبض على الحقيقة. النص والعقل من هنا كان تفريقي بين نوعين من النقد: الأول هو «نقد العقل» الذي ينتمي إلى عالم فكري يشتغل صاحبه بمفردات الكلّي والحتمي أو المحض والمتعالي أو القطعي واليقيني. والثاني هو «نقد النص»، وهو ينتمي إلى عالم فكري تدار فيه الأفكار وتعالج المسائل بكسر الثنائيات التي تقيم فصلاً حاسماً بين الصدق والكذب أو الصح والخطأ أو المعقول وغير المعقول. وفق نقد العقل، إن النص هو أطروحته وحججه وأحكامه، لذا فهو يصح أو لا يصح، يُقبل أو يُرفض، ولا احتمال آخر. وفي المقابل تعامل النصوص، في نقد النص، أكانت فلسفية أو غير فلسفية، لا بوصفها أحادية الأطروحة أو قطعية الدلالة، بل بوصفها مواد للعمل أو حقولاً للدرس والتنقيب، أو رؤوس أموال رمزية صالحة للصرف والتحويل، بحيث يمكن لكل قارئ أن يقرأ فيها ما لم يرد على ذهن مؤلفها، أو ما لم يقرأه سواه. وذلك وفق مشاغله وتجربته وأدواته، وبالطبع وفق قدرته على الخلق والخرق. انطلاقاً من هذا الفهم نعود إلى النص، لا لكي نتماهى معه ولا لنفيه، كما يفكر أهل اليقين القاطع. نعود إليه لنقرأ في صمت الخطاب أو لنحفر في طبقاته وطياته، للكشف عما يحجبه ويتأسس عليه، ربما من فرط وضوحه. والنص إنما ينسى نفسه وحقيقته، بداهاته ومسبقاته، بنيته وآلياته، سلطته وألاعيبه. والمثل الذي أضربه على ذلك، هو قول الحسن البصري: بقيت أنا ورابعة يوماً وليلة، نتحدث حديث الروح، حتى كدت أنسى أني رجل وأنها امرأة. ولكن الخطاب الذي يتأسس على النسيان يفضح صاحبه. فالحسن لم يغفل ولا لحظة عن حضور رابعة بجسدها وهيأتها وفتنتها. والدليل هو حديثه عن النسيان. مثال آخر فاضح يقدمه لنا أولئك الذين أرادوا للدراسات الاستغرابية أن تكون رداً على علوم الغرب، ولكن خطاباتهم وأدوات تحليلهم وأنماط تفكيرهم هي ثمرة للثقافة الغربية الحديثة. وذلك يشهد على جهلهم بما يقولون، كما يشهد على أننا تجاوزنا ثنائية الاستشراق والاستغراب التي شكّلت أحد عوائق التفكير الفلسفي باللغة العربية. من هنا لا يقرأ النص كما يقدم نفسه، بل بما يمتنع عليه قوله. من هنا حاجته إلى تفكيك شيفراته. قد يعلن الواحد بأنه مادي تاريخي، فيما يتكشف نصه عند التحليل عن كونه يفكر بطريقة ما ورائية أو متعالية. والمثالات كثيرة بالنسبة إلى الفلسفة التي هي بيت القصيد هنا. نحن نعود إلى ديكارت ليس لنقتنع منه بوجود ذات هي جوهر فكري يقوم بذاته بمعزل عن الجسد، أو يتيقن من وجوده ولو انعدم وجود العالم. مثل هذا البرهان لا يقنع امرأ سليم العقل. نعود إلى ديكارت لنتناول مقولته (أنا أفكر إذاً أنا موجود)، باعتبارها فتحت إمكاناً جديداً للتفكير انتقل معه الإنسان من طوره اللاهوتي كإنسان مخلوق، آثم، ينتظر يوم الدينونة، إلى طوره الناسوتي، الدنيوي والدهري، ككائن يمارس حيويته الوجودية وحضوره في العالم، عبر تعامله مع أفكاره بصورة حيّة، خلاّقة، مبتكرة. نعود إليه لنتناول كلامه بالقول إن الذات هي هذه الازدواجية التي تتيح للمرء أن يتفكر ويتدبر، في ما يخص علاقته بجسده ورغباته، بالآخر والعالم، وبالأخص علاقته بمخلوقاته وأدواته التي تكاد اليوم تتجاوزه وتفلت من سيطرته. كذلك نعود اليوم إلى كنط ليس لنأخذ بمقولته حول العقل المحض السابق على التجربة، أو لنصدق على مقولته حول شروط الإمكان. لأن ما أنجزه كنط هو التفكير بصورة خارقة للشروط، وعلى نحو تغيرت معه طريقة التفكير وجغرافية العقل بملكاته وقواه. ونعود إلى هابرماس لا لننفي إنجازه حول «العقل التواصلي»، بل لكي نستثمر هذا الإنجاز بفتحه على تجارب جديدة وعلى بيئات ثقافية مختلفة. نعود إليه أيضاً لا لنوافقه على اعتراضه على نقد مشروع التنوير، بحجّة أنه برأيه لم يكتمل، فنحن لن ننتظر مع سذج أهل التنوير كي يكتمل المشروع، حتى ننتقده، إذ لا شيء يكتمل، لأنه لا حقيقة مطلقة أو نهائية. وهذا ما جعل هابرماس يتراجع عن رأيه ويعترف بأزمة مشروع الحداثة والتنويري. بين التنويري والنضالي والوجه الآخر للانتقال من نقد العقل إلى نقد النص، هو التمييز بين التحليل الفلسفي والمشروع الأيديولوجي، بين الجانب التنويري والجانب النضالي. ولو عدنا إلى ماركس نجد أن أعماله الفكرية أسفرت عن تشكيل جملة مفاهيم قويّة تركت أثرها في الثقافة العالمية، ويمكن للواحد أن يستخدمها من دون أن يعرف مصدرها، كما هي مثلاً حال من يستخدم مصطلح البنية الفوقية. في ضوء هذا التمييز تبقى نصوص ماركس كإمكان للتفكير، نقرأ فيها ما لم يقرأ، فيما يتهافت المشروع الأيديولوجي النضالي، كمشروع خلاص تأسس على نظرة سحرية، فردوسية، ديكتاتورية للإنسان. بهذا المعنى كان الأنبياء القدامى أقل ثقة من ماركس بالإنسان، وأدنى منه إلى فهم حقيقة الواقع البشري المفتوح على شتى الاحتمالات إيجاباً أو سلباً، بناءً أو هدماً، أنساً أو توحشاً. منطق علائقي وإذا كان هذا شأني مع الأسماء الكبيرة، فمن باب أولى أن يكون الأمر كذلك مع من ساروا على نهجهم من المعاصرين. فالعالم لم يصبح أفضل مع تشومسكي وبورديو وجيجك وزيغلز، وسواهم من أصحاب المشاريع الطوباوية، الفاشلة، لتغيير العالم. وتلك هي حصيلة دعوى بورديو الوقوف على «الحقيقة الأولى والأخيرة» في الشأن المجتمعي: أن تفاجئ الفرنسيين الأزمات المجتمعية والمعيشية، على رغم كل هذا التراكم المعرفي في علوم الاجتماع والإنسان. لأن الممكن ليس القبض على الحقيقة، بل خلق وقائع تتغير معها العلاقة بالواقع. وما ابتكره بورديو من المفاهيم، وأخصّها بالذكر مفهومه حول «رأس المال الرمزي»، لا يحتاج إلى مجرد التطبيق بوصفه الحقيقة القابضة، وإنما يحتاج على أرض الواقع، إلى ساسة مبدعين يحسنون إدارة الأفكار بتحويلها إلى خيارات سياسية أو إجراءات عملية. بهذا المعنى، نحن نعود إلى الأطروحة ونقيضها. لدى هيغل، على نحو إيجابي وبناء، بتجاوز منطق النفي الجدلي. فلا شيء مما يحدث يمكن نفيه. الممكن هو العمل عليه بمنطق التحويل الخلاق، الذي هو منطق تركيبي، علائقي تبادلي، يرى إلى الواقع بكل أطواره وأبعاده ومستوياته... أتوقف هنا عند الفلاسفة العرب المعاصرين، لأقول بأن موقفي منهم هو موقفي ذاته من فلاسفة الغرب. أتيت منهم ولكني خرجت عليهم. أفدت منهم بمقدار ما أسلط الضوء على مآزقهم. وبخاصة نقّاد العقل ودعاة التنوير والتقدم. فإنهم لم ينجحوا في تطوير عناوين الحداثة، ولا في ابتكار صيغ عقلانية جديدة، لأنهم لم يتصرفوا كفلاسفة. لقد وقعوا في فخ الاعتبارات الأيديولوجية، القومية أو الدينية. أو غلبوا الهواجس التحررية على الصناعة المعرفية، مما شكل عائقاً حال بينهم وبين إنتاج خطابات فلسفية عابرة لحواجز اللغات والثقافات، بأسئلتها الوجودية، وقضاياها الراهنة، ولغاتها المفهومية. خرق الشروط أنهي مقالتي بميشال فوكو، الفيلسوف الذي كان ولا يزال مثار جدل، سواء في العالم الغربي أو في العالم العربي، والذي كان أيضاً مثاراً لقراءات سطحية سلبية ناجمة عن الجهل بفلسفته، أو بسبب المواقف المسبقة المناهضة لارادة الفهم، من جانب من يتعاطى مع الفلسفة بعقل أصولي تقليدي. وفوكو قد جدّد في الحقل والمنهج والأسلوب، كما جدد في العدّة المفهومية، وهو يمارس، بعد أكثر من ثلاثين عاماً على رحيله، أثره القويّ أكثر من الذين انتقدوه أو ناصبوه العداء، كهابرماس أو تشومسكي والكثيرين من المثقفين العرب. قد يكون فوكو ديكارتياً أو كنطياً أو هيغلياً أو ماركسياً. لكنه تجاوزهم، وإلا لما كان فيلسوفاً مجدّداً، بفتحه إمكانات خصبة لعمل الفكر تغيرت معها طريقة التفكير ومفهوم العقل، بمقدار ما تغيرت علاقتنا بالحقيقة والمعرفة، بالسلطة والحرية. وهذا شأن من يتعاطى مع مهنته، أياً كانت، بصورة مبتكرة، خارقة، إنما يصنع حقيقته ويترك اثره بخلقه وقائع جيدة، في مجاله ومحيطه وعالمه. هذا ما فعله الفلاسفة، بابتكاراتهم وإنجازاتهم. كل واحد غيّر قواعد اللعب وخريطة المشهد على ساحة الفكر، بمقدار ما فكر بطريقة مختلفة، خارقة للشروط، متجاوزة للحدود. والنص الخارق لا يقدم لنا لائحة بالشروط الممكنة، وإنما به يجترح ما يجعل الممتنع ممكناً والعصي في المتناول. وهذا ما ينتظر أن يفعله من يتعاطى الشأن الفلسفي، في العالم العربي: خلق ما به نخرق السقف المحلي أو الوطني، بإنتاج أفكار تترك أثرها على ساحة الفكر العالمي، على نحو تتغير معه علاقتنا بمفردات وجودنا، بمقدار ما تنفتح صفحات وسجلات جديدة مع الحقيقة والهوية أو مع الآخر والعالم. مرة أخرى، ذلك هو التحدي، أن تتقن لعبة الخلق والفتح. فالتفكير الحيّ والمثمر هو خلق وخرق بمقدار ما هو لعب ورهان. ومع ذلك فنحن لا نفكر الآن على طريقة فوكو. ولذلك حديث آخر.