لم يُجِب العام العراقي المنصرم عن اسئلة التأسيس، ولم يحسم بعد انتخابات عصيبة وصراعاً مريراً حول شكل الحكم المستقبلي في العراق، ولا حول سماته، فكان تأجيل الاجابات وترضية الجميع في نطاق توافقات صعبة، حلاًّ يتم اجتراره من الاعوام التي سبقت. الانشغال ب «من يحكم؟»، الذي يتم تغليفه في كل موسم انتخابي بسمات ذات بعد مذهبي وحزبي وتاريخي، يطغى مراراً على محاولة معرفة كيف سيكون الحكم؟ ومشاكل العراق المدورة من مرحلة الى اخرى، ابتداء من كركوك، والنفط، وصلاحيات الحاكم، وحدود العسكر، وسلطة الاقاليم، وضوابط الاحزاب، والحدود بين الشريعة والقانون المدني، ومستقبل النفوذ الاجنبي، وتعديل الدستور، سوف تستمر في هذه المرحلة على الغالب لضمان حدود دنيا للتوافق في نهاية العام 2011. فالأميركيون يؤكدون عبر انسحابات على الارض ان العام الجديد هو الاخير في رحلة الغزو العسكري للعراق، والمسلحون والمليشيات يُظهرون ميلاً للاشتراك في العملية السياسية بديلاً عن مقاطعتها... لكن «القاعدة» تواصل حرباً مجنونة على كل شيء وفي كل الاتجاهات. كيف ... ومن؟ الجدل الذي استشرى منذ مطلع 2010 حول قانون الانتخابات العامة، كان يركز على محاولة استباق نتائج الانتخابات التي تأخرت حتى آذار (مارس) من العام نفسه عبر السيطرة على جزء من نتائجها ومنع حدوث المفاجأة المدوية. «كيف سيدار البلد في مرحلة الانسحاب الاميركي؟»، كان التساؤل المركزي الذي فرض نمطاً معيناً من التوافق حول قانون الانتخابات توقع له المراقبون منذ البداية ان يخدم الاحزاب الكبيرة ويدفع بالصغيرة الى خارج المنافسة، وهذا ما حدث. أجواء التحضير للانتخابات لم تكن مريحة بدورها، فهيئة «المساءلة والعدالة» المعنية باجتثاث البعثيين تصدر عشرات القرارات بحرمان مرشحين الى الانتخابات، بتهمة ماضيهم البعثي، معظمهم من «القائمة العراقية» التي شكلت حشداً واسعاً بين العلمانيين والسنة بزعامة اياد علاوي. القائمون على عمل الهيئة يؤكدون مهنيتهم، والمعارضون يتهمونهم بتسييس عمل الهيئة واستخدامها كوسيلة انتخابية. وكان الجدل قد بلغ أَوَجَه بحرمان مجموعة من كبار زعماء «العراقية» من خوض الانتخابات، ومنهم صالح المطلك وظافر العاني. وهي الخطوة التي اشعلت نيران المنافسة في يوم الانتخابات وعكست اندفاعاً غير مسبوق في المدن السنية نحو المشاركة، تحت ظل شعار «التغيير» الذي رفعه علاوي. بعد ساعات من اقفال صناديق الاقتراع في 7 اذار (مارس)، بدأت المؤشرات تؤكد فوز علاوي بالمنافسة، وتغيرت الاسئلة العراقية سريعاً باتجاه «من سيحكم؟». نالت «العراقية» في النتائج النهائية التي أعلنت في 26 من الشهر نفسه (91 مقعداً) بفارق مقعدين عن قائمة رئيس الوزراء نوري المالكي «دولة القانون» (89 مقعداً) وجاء تحالف القوى الشيعية الرئيسية «الائتلاف الوطني» ثالثاً ب (70 مقعداً) ومن ثم «التحالف الكردستاني» (43 مقعداً). كانت المحكمة الاتحادية قد تدخلت للاشتراك في الاجابة عن تساؤل «من سيحكم؟»، عبر تفسير للمادة 76 من الدستور، بالسماح لمن يجمع اكبر تحالف داخل البرلمان بالحكم، بصرف النظر عن نتائج الانتخابات. لكن الاجابة اتسعت الى خارج الحدود، وأصبحت مشكلة بحد ذاتها، فدول الاقليم انبرت بدورها للاشتراك في الاجابة. كانت الخيارات متقاطعة، وما تريده ايران يختلف تماماً عما تريده مجموعة الدول العربية، فيما كانت تركيا القادمة الى الساحة العراقية بقوة تضع أقداماً واثقة داخل المشهد العراقي الذي اختارت واشنطن ان تكون على مسافة متوازنة فيه مع طهران بتأييد المالكي للحكم على حساب علاوي. br / اختبر العراق تحطيم رقم قياسي عالمي جديد في الفراغ الدستوري، واختبر ايضاً جلسة اولى للبرلمان استمرت مفتوحة من 14 حزيران (يونيو) الى 11 تشرين الثاني (نوفمبر)، حيث نجحت مساع قادها رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء، ما انتج اتفاقاً سياسياً يقضي بتولي المالكي رئاسة الحكومة وجلال طالباني رئاسة الجمهورية وأسامة النجيفي رئاسة البرلمان، على ان يتولى اياد علاوي لاحقاً رئاسة «مجلس السياسيات الاستراتيجية» الذي استُحدث لإكمال دائرة التوافق بين جميع الاطراف. كان المعيار الذي انتج ذلك التوافق السياسي الهش هو الاعتراف الضمني بعدم استعداد العراق لتجاوز محنته الطائفية... وهذا الاعتراف كان فجَّر بشكل مبكر تفاصيل صادمة عن طبيعة من يحكم العراق، خصوصاً بعد ان جاء دعم السنة لعلاوي الشيعي العلماني بمثابة بالون اختبار للاشتراط الاول بان «يكون الحاكم شيعياً». فجاء الرد على يد الاطراف الشيعية التي توافقت في ما بينها في النهاية على تأكيد مفاده «ان حاكم العراق لا يجب ان يكون شيعياً فقط، بل لا بد من ان ينتمي الى منظومة الاحزاب الدينية الشيعية التي تصدت للعمل السياسي في العراق قبل العام 2003». بل ان المعيار نفسه كان قد انسحب بشكل جدل داخل الاحزاب الشيعية حول ان كان لا بد للحاكم من ان يكون من «حزب الدعوة» الاكثر عراقية في العمل السياسي منذ العام 1961، او «المجلس الاسلامي الاعلى» الذي تأسس نهاية السبعينات، فيما لم يطرح شيعة «الداخل» حديثي العهد، مثل تيار الصدر وحزب الفضيلة، اي رغبة بالتصدي للحكم. لم ينجح العراق في تجاوز دائرة المحاصصة في توزيع مناصبه وتقاسم حكومته، ولم ينجح العراقيون في تحويل الانتخابات الى مناسبة لتعريف الدولة وشكل الحكم الدائم وحل الأزمات المؤجلة. ومع اقتراب الجميع من حافة الهاوية تحول النظام التوافقي الذي اعتبر خلال الحكومة السابقة مدخلاً الى نشر الفساد وتقويض النهوض الى شر لا مناص من الركون اليه لضمان الاحتفاظ بعراق قادر نظرياً على احتمال انسحاب عسكري اميركي بعد عام واحد فقط. لكن مفهوم «اقتسام السلطة» الذي ساد نهاية العام 2010 سيكون مختلفاً بشكل جذري عن ضرورات اقتسام مخاطر وتحديات الانسحاب الاميركي نهاية العام 2011. «القاعدة» بلا رؤوس عام الانشغال بالانتخابات كان فرض انشغالاً عن متابعة متغيرات مهمة في خريطة المجموعات المسلحة العراقية، فتيار الصدر يشترك في الانتخابات بقوة وينال مساحة واسعة، ويبدأ زعيمه في اتخاذ خطوات باتجاه عقلنة جناحه العسكري تمهيداً لتجميده، فيما تحاول مجموعات شيعية مثل «عصائب اهل الحق» و»كتائب حزب الله» الحصول على مكان في النور، مع تغير المزاج السياسي والشعبي الشيعي بالضد من العمل المسلح. المجموعات السنية المسلحة خارج منظومة تنظيم «القاعدة» بدت متحمسة بدورها الى التطبيع مع النظام السياسي الجديد، فأصدرت المجموعة الأكبر «الهيئة السياسية للمقاومة» بياناً تؤكد فيه عدم معارضتها للانتخابات ونتائجها اذا كانت ستسهم في الاصلاح والتغيير. لكن الوضع بالنسبة الى « القاعدة» كان مختلفاً، فالتنظيم اعلن الحرب على الانتخابات بداية العام وحاول عبر بعض العمليات يوم الانتخابات تقويض نسب المشاركة فيها من دون ان ينجح في ذلك، واستمر محاولاً التاثير على نتائجها ودلالاتها وشن عمليات اغتيال ضد المرشحين اليها من جميع القوائم وكانت الحصة الاكبر من الاغتيالات قد تلقتها القائمة «العراقية». كان واضحاً ان تنظيم «القاعدة» لجأ منذ منتصف العام 2009 الى تغيير استراتيجياته باتجاه تنفيذ عمليات نوعية يتم التحضير لها بعناية وتستحوذ اهتماماً اعلامياً استثنائياً، فكانت سلسلة عمليات الوزارات والفنادق والاسواق. العمليات نجحت في زرع المزيد من الشكوك في قدرات الاجهزة الامنية العراقية وفي كفاءتها وقدرتها على سد فراغ الانسحاب الاميركي من المدن الذي يفترض ان يتم في آب (أغسطس) من العام 2010. لكن القوات العراقية اعلنت في 19 نيسان (ابريل) تمكنها من قتل زعيمي التنظيم ابو عمر البغدادي وابو ايوب المصري في منطقة الثرثار شمال بغداد، واعترف التنظيم بمقتل زعيمه، وأمضى وقتاً قبل ان يعلن اختيار زعيمين جديدين هما ابو بكر البغدادي وابو عبد الله القرشي. لكن الضربة، كما اكدت الاحداث التي اعقبت مقتل البغدادي والمصري، كانت موجعة للتنظيم، والشخصيات الجديدة التي اختيرت لقيادته كانت من تلاميذ زعيم التنظيم الاسبق ابو مصعب الزرقاوي ومعظمهم من صغار السن، ما اثبتته لاحقاً قائمة معتقلين ابرزهم والي بغداد الجديد حذيفة البطاوي الذي خلف الوالي السابق المعتقل مناف الراوي، والذي تبين ان عمره لايتجاوز 27 سنة وهو مازال طالباً في كلية طب الاسنان. اللجوء الى جيل الزرقاوي الاكثر اندفاعاً فرضته ضرورات فقدان الرؤوس. لكن نتائجه كانت الإقدام على سلسلة عمليات في بغداد شملت حرق نقاط تفتيش وتفجير الفنادق وعمليات اغتيال عشوائية في الشوارع وتنفيذ هجمات انتحارية ضد مناسبات دينية شيعية واستهداف مجالس الصحوة. ووصلت مرحلة انفلات التنظيم مداها في عملية اقتحام كنيسة سيدة النجاة في بغداد مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) وأخذ المصلين فيه رهائن ومن ثم تفجير الكنيسة وإعلان حملة استهداف للمسيحيين في العراق ساهمت في ترحيل عشرات الآلاف منهم خلال اسابيع. تلك الانتقالة يبررها المطلعون على آلية عمل تنظيم القاعدة بانها تعكس الهيكلية الجديدة التي اعقبت هيكلية البغدادي والمصري، فاعتماد لامركزية التنظيم شملت كما يبدو تأسيس مليشيات منفصلة، ما يسمح بالقول ان تنظيم» القاعدة» في العراق قد تحول الى نحو 5 مليشيات منفصلة عن بعضها تماماً، وان هناك خمسة اشخاص ايضا قد يحملون لقب ابو بكر البغدادي في التنظيم، وفق تخمينات المعلومات الاستخبارية العراقية، التي اشارت الى ان عمليات نهاية العام التي شنتها القوات العراقية أسفرت عن إنهاء 3 مليشيات على الاقل. لكن «تنظيم القاعدة» مازال يشكل الخطر الاساسي في العراق، سواء اصبح له رؤوس جديدة ام لا، بحسب الاميركيين والعراقيين، وان كانت محاولاته لإثارة حرب طائفية جديدة قد اصبحت اقل تأثيراً من الاعوام السابقة. احصاءات ضحايا العام 2010 بدورها كانت متباينة من شهر الى آخر، وترواحت بين 1098 قتيلاً وجريحاً في كانون الثاني من العام 2010 الى اقل من 700 في كانون الاول من العام نفسه. فيما استمرت المعدلات مرتفعة بفعل استمرار اعتماد «القاعدة» استراتيجية الهجمات النوعية التي توقع خسائر كبيرة، الى جانب لجوء معظم التنظيمات المسلحة والمليشيات الى التوسع في استخدام العبوات اللاصقة وعمليات الاغتيال بكواتم الصوت. عام الانسحاب يقترن العام 2011 في العراق بإنهاء ترتيبات الانسحاب الاميركي من العراق الذي يفترض ان يتسارع منذ مطلع العام الجديد لينتهي بانسحاب آخر جندي اميركي نهاية العام حسب الاتفاق الامني بين الطرفين. وبصرف النظر عن المعلومات المتضاربة عراقياً واميركياً حول احتمال طلب الحكومة العراقية، وربما «مجلس السياسات الاستراتيجية» الجديد بقاء القوات الاميركية الى ما بعد هذا التاريخ، فان معطيات العام 2010 العراقية، الذي انتهى بتشكيل حكومة توافقية تعمل لصالح تقويم الاخطاء الكبيرة التي شابت تأسيس القوى الامنية العراقية، قد يشكل مدخلاً لتثبيت آلية التوافق في الموقف من الانسحاب. فالتوافق من حيث كونه مشكلة ادارية وتنظيمية وتأسيسية، يعتبره الوسط الامني العراقي املاً وحيداً متبقياً لضمان تحصين الجبهة الداخلية امام قائمة التحديات الطويلة التي تكشف عنها تداعيات الانسحاب العسكري الاميركي. لكن التوافق الذي حصل في العراق لتشكيل الحكومة نهاية العام 2010 لا يُعَدّ بحسب الكثير من المراقبين معياراً للتصدي لترتيبات الانسحاب الاميركي، فهو في نسخته الحالية «تقاسم للمغانم الحكومية»، فيما يتطلب نهاية العام 2011 «تقاسماً للمخاطر» ايضاً، ما يتطلب انتظار الشهور الاولى من عمر حكومة المالكي الجديدة لتقويم امكان المضي في جداول الانسحاب الاميركي السابقة او إجراء تعديلات عليها.