يبدو أن أوروبا طوت صفحة الثورات، وتصدرت حركات التمرد الساحة السياسية والاجتماعية الأوروبية بدءاً من كليشي سو - بوا، في الضاحية الباريسية، في 2005، الى اعمال الشغب الطالبية في لندن، في 2010، وصولاً الى التظاهرات الطالبية الأخيرة في شوارع روما، مروراً بتظاهرات أثينا، في 2008. وحركات التمرد هذه والانتفاضات لا تحمل مشاريع ولا تصبو الى أهداف مستقبلية، وهي تخالف ما ذهب اليه فوريو جيزي، أبرز المفكرين الذين تناولوا حركات التمرد والانتفاض. وفي كتابه «سبارتكوس سيمبولوغيا ديلا ريفولتا» (سبارتكو ورمزية الثورة)، يرى جيزي مستوحياً رامبو وعامية (كمونة) باريس أن المدينة هي حاضنة حركات التمرد. فلحظة التمرد، يجد المرء نفسه وسط دفق أو سيل من الناس يشعر معهم بالانتماء الى جماعة «نحن» واحدة. والجماعة هذه هي وحدة موقتة، وآنية، ومنتشية، وعنيفة. ومع أفول مرحلة الأيديولوجيات في أوروبا، وانهيار جدار برلين، وغلبة فكر واحد على غرب أوروبا وشرقها، تُعلق حركات التمرد جري الوقت التاريخي، وتفسح المجال أمام اللحظة الآنية أو الفورية. والحركات هذه تؤذن بغلبة كفة الحاضر الآني على المستقبل. فلا يُنتظر قدوم الثورة. وروى والتر بنيامين أن ثوار كمونة باريس أطقوا النار على الساعات الجدارية الكبيرة، وهي رمز الوقت، إيقاع التقدم وانضباط العمل. والتمرد لا يحتسب النتائج ولا يقدرها. فهو يعيش اللحظة المباغتة والفجائية. ولا يفترض (التمرد) استيلاء طبقة اجتماعية على السلطة، بل هو يفترض تحول أفراد مذررين، لحظة انتفاضة مرتجلة وعفوية تسري عدواها بين جموع الأفراد، قوة مؤقتة. وبعد انقضاء لحظة التمرد، لا تعود الأمور الى سابق عهدها. ويرى فلاسفة ومفكرون تناولوا التمرد ومفهومه، وأبرزهم الإيطالي باولو فيرنو والفرنسيان آلان باديو وجاك رانسيار، أن الثورة هي الرد الوحيد الممكن على مجتمع لا يملك يقيناً ولا يملك نظريات تسوغ الهيمنة والسلطة والقسر وتوسل القوة وجاذبية الاستهلاك وسحره. فالتمرد هو من بنات أزمة الديموقراطية التمثيلية التي يبدو أنها فقدت، في الغرب نتيجة أسباب معقدة، دالتها التاريخية. والمتمردون، ودواعيهم مختلفة، هم مرآة رغبة فوضوية ومشوشة فورية في الحياة حياة تخالف النهج الطاغي على الساحة السياسية بإيطاليا. فالشباب الذين يسترون رؤوسهم بالقبعات ويتسلحون بدروع يركضون في الشوارع، ويتسلقون الانصاب التاريخية، ويضرمون النار في السيارات وحاويات النفايات هم مرآة قوة هي خارج الفئات السياسية التقليدية، سواء كانت ماركسية أو ما بعد ماركسية أو نيوليبرالية. فالتمرد يولد من رحم تظاهرة وقتية، من أداء مشهدي. فهو تظاهرة وَلَه أقرب الى التظاهرات الدينية والأعياد منها الى بنى التمثيل السياسي، مثل الأحزاب والبرلمانات. فالتمرد يُعاش، ولا ينتدب أحد لتمثيله. وحريّ بنا الاستعداد للعيش في عصر مختلف عن عصر الآباء والأجداد، عصر لا يسوده توجه واحد ومآله الى مجهول يبزغ فجأة ويتداعى في وقت واحد. فإنسان الفتنة أو المشاغبة HOMO SEDITIOSUS هو بطل بشرية تنزل اليوم وغداً وبعده الى الشارع لابتكار «فن من غير أثر». * معلق، «لا ستامبا» الإيطالية، 16/12/2010، إعداد منال نحاس