تطرح رواية «بنات الرياض» لرجاء الصانع فرضية ضعف الرجل أمام التمييز. ففيصل الذي وقع في حب ميشيل أو مشاعل، يفشل في إقناع أمه بالزواج من ميشيل. إن مشكلة فيصل تبدو مزدوجة. فالرفض لم يكن من ذي سلطة ذكورية، بل من امرأة هي ذاتها تعاني من التمييز والإقصاء. أمه، بطريقة تبدو ساخرة، تلعب دور حارس الأعراف القبلية. فقد استنكرت عائلة ميشيل، ولم تجد لعائلتها (العبدالرحمن) أي نسب بين عائلات الرياض الكبرى. فيصل تقهره امرأة، وتحرمه من امرأة، بدوافع قبلية ترفع وتخفض في مراتب الأشخاص. ومن يتأمل رواية بنات الرياض من هذه الزاوية ربما يلحظ أنها، بخطابها النسوي، صرخة في وجه الرجل المؤسسة، سواء القبلية أو المذهبية أو المناطقية. فبطلاتها الأربع عانين بطرق مختلفة من الرجل. وتحددت مصائرهن بناء على مواقف مسبقة تحكم فيها الموقف من الآخر بجلاء. وفي رواية «القارورة» ليوسف المحيميد يتصعد الموقف العنصري بشكل أكثر بشاعة ولا إنسانية. ففي عمق الأزمة الأخلاقية التي تواجهها فاطمة يناقش المحيميد أزمة التمييز العنصري، مؤكداً بانحياز مطلق فكرة استحالة اجتثاث هذا السلوك البغيض من ثقافة المجتمع. فعندما تتعرف فاطمة على من اغتصبها تبحث عن خلاصها، راجية أن يتزوجها. وهذا الموقف يحمل إذلالاً للمرأة، حين تطلب من مجرمها أن يعيد إليها شرعية وجودها بالزواج منها ولو لأسبوع واحد فقط. ويبدو هذا الموقف، الذي تشترك فيه الجهات المسؤولة مع فاطمة منعاً للفضيحة، إنسانياً، على رغم المفارقة الصارخة. غير أن المفاجأة أن المغتصب يستنكف من الارتباط بها لا لشيء إلا لأنها من منطقة أخرى غير منطقته، إذ يقول: «ما بقى إلا أتزوج حساوية» . هذه النظرة الدونية يقابلها تساهل في العقاب، إذ يحكم عليه بالسجن أربعة أشهر فقط في إشارة صارخة إلى غياب الردع الحقيقي لهذا النوع من الجرائم، بل إن عقاب فاطمة كان أقسى، إذ صدر الحكم بتغريبها سنة كاملة، خفف إلى تسعة أشهر نظراً «لأخلاقها وسلوكها الحسن». ألا تتحمل المؤسسة الدينية والسياسية جزءاً من المسؤولية في شيوع هذا الخطاب، وفي تمادي بعض الأفراد في هذا السلوك. إن مأساة فاطمة في رواية «القارورة» جزء من مشكلة بطلة الرواية منيرة الساهي التي عاشت خدعة كبرى، مأساتها الخلفية عنصرية أخيها الرائد صالح الساهي تجاه حسن العاصي الجندي تحت إمرة الساهي. فإذا كانت العسكرية تخضع أفرادها لتراتبية صارمة، فإنه لا ينبغي أن تصل إلى منطقة الإذلال. فعندما يطلب الساهي من العاصي أن يمسح حذاءه، فإن ذلك يعنى هدر الكرامة وتجاوز اشتراطات الوظيفة. من هذه الخلفية البعيدة يأتي انتقام العاصي بشعاً ولا إنسانياً، إذ ينتحل شخصية تضعه في رتبة رائد أسوة برتبة الساهي، التي تهيئ له خداع منيرة الساهي. هذا الانتحال ظاهرة الانتقام من صالح الساهي، وباطنه الخلاص من منزلته الدنيا بمصاهرة عائلة الساهي. وكما كانت فاطمة ضحية رجل عنصري، ها هي منيرة المثقفة تقع في ذات الشرك في لعبة عنصرية تناضل في مقالاتها لمحاربتها. وفي رواية «ستر» لرجاء عالم إشارات متعددة ومختلفة في الموقف من الآخر. غير أن ما يعنينا في هذا السياق، هو الموقف من الآخر المحلي. ففي إشارة تهكمية دالة على الرفض المقنع، تضع الراوية زواج فهد ابن الشيوخ من طفول الجداوية موضوع التساؤل. فعلى رغم قبول الزواج ومباركته من الشيخ بندر والد فهد، فإنه موقف أقرب للتفضل بالمباركة أكثر من كونه قناعة خالصة. وقد أكد ذلك رفضه المشاركة في حفلة الزواج، وانتظار طفول لتمثل بين يديه في قصره. كما أن إشارة بنات عمومة فهد تؤكد النظرة الدونية لطفول سواء بدافع الغيرة أم بدافع الشعور بعلو المنزلة. ولعل رواية أبو شلاخ البرمائي لغازي القصيبي، وهي رواية ساخرة بطبيعتها، سمّت الأشياء بأسمائها. فالتقابلات التي تنهض عليها العنصرية لخصتها في أوصاف دائمة التداول في السياق الاجتماعي المحلي. فالقبلي يقابله الخضيري، والسني يقابله الشيعي، والنجدي يقابله الحجازي. هذه البنية الثقافية الراسخة بمدلولاتها الاجتماعية والمذهبية تغذي شعور العداء المتأصل بين الجماعات، على رغم قواسم الانتماء الوطني الواحد. في واحدة من أبلغ المداخلات المشهدية السردية يتقدم أبو شلاخ البرمائي لخطبة الفتاة التي يحبها، وضحا. ووفقاً لثقافة التمييز يتم رفضه من دون مراعاة لأي مشاعر يمكن أن تكون حاضرة في علاقة الطرفين. فالأهلية القبلية شرط مقدم على ما سواه. لقد اختبرت الرواية باستقصاء دقيق إشكالية المرجعية القبلية، والتعلق بالأنساب. وبسخرية حارقة يتعمد أبو شلاخ أن يختم نسبه الطويل بابن خضير. عندها يصرخ والد وضحا: «خضيري وجاي تخطب بنتي، ... قم ما أنت من مواخيذنا». وتعمد الرواية إلى المواجهة وتصعيد الموقف. فإذا كان أبو شلاخ يفتقد النسب العالي، فلماذا لا يشتري شجرة عائلية ترتقي به إلى حيث يحظى بالقبول الاجتماعي. هنا تترك الرواية بصمتها على الآثار الاجتماعية للإقصاء. فالخداع والتزوير مخرج من فوضى التصنيف العنصري. فبقدر التعصب يولد ما يوازيه من التدليس والتقنع بمظاهر وشكليات تقود المجتمع إلى التشرذم والتفتت والتفرق. لقد ألحت الرواية، عبر سخرية بليغة، على تكرار أزمة الانتساب الذي يلغي ويقصي الآخرين، ويؤكد التشرذم، ويدعو للانعزال. ففي مناسبة أخرى يستحضر أبو شلاخ مصطلح خضيري، على رغم أن الحديث كان عن التمر من نوع «خِضري»، إذ يتساءل بوضوح يذكر بمأساة التصنيف العنصري، يقول: «يا الربع ذبحتونا بسالفة خضيري وقبيلي، ألحين حتى التمر فيه خضيري بعد». ولعل ما يميز رواية أبو شلاخ البرمائي هو مباشرة طرحها للقضية، لكن من دون تشنج أو خطابية فجة. فقد كانت السخرية والابتسام أداة المعالجة، عبر شخصية بنيت سردياً لتحمل دلالات تنم عن كشف المسكوت عنه. فأبو شلاخ يدعي الكذب، في حين أنه يقول الحقيقة وفق خطاب سردي يحتمل إعادة تمثيل التجارب الاجتماعية. وتصل رواية «جاهلية» لليلى الجهني إلى ذروة التعبير عن أزمة التمييز العنصري ومن زاوية غير مسبوقة من قبل. منذ البدء تحدد الرواية موقفها. فالعنوان دالة على التخلف وإرث ما قبل الإسلام. اختبرت الرواية إشكالية التمييز على أساس اللون؛ الأسود في مقابل الأبيض. وعلى رغم معرفة النتائج سلفاً، فإن الأهم هو الأزمة الإنسانية التي تمس فردين يؤمنان بالحب، ولا يستطيعان هدم العوازل الاجتماعية الصلبة. تقف الفتاة، لين، بلونها الأبيض، متسائلة «هل أخطأت عندما أحببت رجلاً أسود». صراع اللونين، الأبيض والأسود، صراع له عمق اجتماعي بعيد المدى، أكثر قدرة على قهر الإنسان، وحبه ورغباته. إن التمييز اللوني ثقافة قاتلة، لا تؤمن بالتداخل النوعي. فإقدام الرواية على طرح مشكلة اللون هو التذكير فقط بمأساة راح ضحيتها مالك ببشرته السوداء لأنه تجرأ، فأحب لين البيضاء، بل وتقدم لخطبتها. إن مشكلة الحب تكمن في عماه عن رؤية المتاريس الاجتماعية التي أودت بحياة مالك على يد هاشم، أخو لين. فمجرد أن يحب رجل أسود امرأة بيضاء هو تعد على عرف راسخ عقابه القتل. لقد أظهرت الرواية نوعين من الرفض، رفض مسالم، ورفض عنيف. فالأب رفض لاعتبارات القبيلة والحسب والنسب. أما ابنه هاشم فقد مارس الإقصاء الجسدي. هل كانت الرواية تشير لتصرف فردي من هاشم أم ثقافة تبالغ بالرفض إلى حد الإقصاء والنفي من الحياة؟ إن موت مالك، رمز لبقاء التمييز اللوني قائماً ومنفصلاً عما سواه. ولعل ما تجدر الإشارة إليه هو موقف هاشم الذي قد يرمز إلى تصاعد وتيرة التزمّت الاجتماعي وظهور نزاعات التمييز العنصري بين الأجيال الشابة. وهي رؤية تكشف خلالاً في التربية الدينية والتعليمة التي لم تستطع إلا أن تعلم الكراهية ورفض الآخر. *** هذه مقاربة أولية لقضية ذات حساسية اجتماعية كبيرة، استقصتها الرواية بوعي مجبول على الرفض، بعضه مسبق التكوين، وبعضه منبثق بوعي روائي من داخل نسيج الرواية كما في رواية القارورة وأبو شلاخ البرمائي. لقد كانت الرواية من أجرأ الخطابات في مناهضة أشكال التمييز والتصنيفات القبلية والمذهبية المختلفة، وهذا دور تنويري يذكر للرواية من دون غيرها من الوسائل الأخرى في ظل تراجع القصة القصيرة وانصراف الشعر لذاتيته، والإعلام بقضاياه الدعائية والنفعية. وعلى رغم اختلاف الرواية في تقديم إشكالية التصنيف العنصري، محل الدراسة، فإنها في تناولها للقضية تتفق في الرفض. فرواية القارورة وأنثى تشطر القبيلة تصل بالإشكالية إلى درجة المأساة الإنسانية، الإذلال الأخلاقي بالنسبة لفاطمة في القارورة، والتشرد والحرمان من الحقوق في حالة تغريد ومولود في أنثى تشطر القبيلة. وفي بنات الرياض وستر يدرج الموضوع بوصفه جزءاً من أزمة الشخوص الإنسانية في مجتمع يكرس هيمنة الخطاب الجماعي على الفردي. وفي رواية أبو شلاخ البرمائي تتحدد معالم الخطاب بوضوح المصطلح، لكن بدرجة ساخرة تخلو من أي خطاب شعاراتي، بل يأتي هذا الموقف ضمن أزمة أبو شلاخ مع مجتمعه، إذ يظهر مزدوج الشخصية يعاني من المبالغة والكذب من أجل كشف حقيقة اجتماعية مغيبة. من هنا تنجح الرواية في استثمار أزمته لتمرير الكثير من الخطابات الانتقادية ضد الكثير من المسلمات الاجتماعية. هذه بعض الروايات، التي لامست أزمة الخطاب التصنيفي، تؤكد دور الفن في استقراء الخطابات كافة، من أجل خلق فضاء غير معهود للحديث عما تواطأ المجتمع على ممارسته بطرق حدّت من التقارب الإنساني، ولا أقول النفعي، بين أبناء المجتمع الواحد. * ناقد سعودي.