في مثل هذا اليوم تماما من العام 1967 أُبلغ الكاتب الكولومبي الشاب - في ذلك الحين - غابريال غارسيا ماركيز أن المطابع التي تتعامل معها دار نشر «سودآميريكانا» في بوينس آيريس، إنتهت لتوها من طباعة ثمانية آلاف نسخة من روايته التي أنجزها قبل أسابيع واضطر لأن يطلق عليها عنوان «مئة عام من العزلة» بعدما كان راغبا في أن يكون عنوانها «البيت» لكن وجود رواية لها نفس العنوان ردعه. في تلك اللحظة تنفس «غابو» الصعداء وهمس» «الآن يبدأ القلق حول ما إذا كان الناس سيشترونها أم لا». وهو كي يخفف من القلق ويساهم في الترويج، قبل على الفور أن تجري معه صحيفة «بريميرا بلانا» حوارا حول روايته تُنشر لمناسبته صورة كبيرة له على غلاف عددها الذي سيصدر خلال النصف الأول من يونيو (حزيران) المقبل بالتواكب مع توزيع النسخ في العاصمة الأرجنتينية. يومها سار كل شيء على ما يرام، بل بأفضل كثيرا مما كان متوقعا، باستثناء ما يتعلق بصورة الكاتب على الغلاف. فهو بدلا منها وجد صورة موشي دايان بعصبة عينه القرصانية تحتل غلاف المجلة. والسبب؟ في تلك الأيام بالذات إندلعت «حرب الأيام الستة» فوجدت المجلة ان من الملائم أكثر وضع صورة العسكري الإسرائيلي مكان صورة الكاتب الكولومبي. مهما يكن، ذات مرة حين سئل ماركيز عما كان شعوره يومها أجاب مبتسما: «لم أكن في حاجة الى تلك المصادفة كي أكره دايان أكثر! مهما يكن، بعد حين نسي الناس جميعا دايان، لكن ماركيز اليوم كما الأمس وكما قبل ذلك، ملء الأسماع والأبصار. وها هو، بعد سنوات قليلة من موته، يستعد خلال أيام معدودة ليشكل الحدث الأدبي الأكبر في العالم، لمناسبة ذكرى مرور خمسين عاما على صدور «مئة عام من العزلة» التي ليست فقط الأشهر بين رواياته، بل أشهر رواية في القرن العشرين... بل إننا إذا جارينا بابلو نيرودا سنعتبرها أعظم رواية كتبت في اللغة الإسبانية منذ «دون كيخوتي» تسربانتيس. ومهما كان من شأن أي تصنيف لا يمكن لهذه الرواية إلا أن تكون في المقدمة، وعلى الأقل بالثلاثين مليون نسخة التي بيعت منها حتى اليوم في عشرات اللغات التي تُرجمت إليها. وفي عدد التيارات الأدبية التي خلقتها. وفي عدد الأعمال الأدبية والفنية التي حاكتها. «مئة عام من العزلة» هي اليوم بالتأكيد رواية روايات القرن العشرين. ولكن ربما تكون أيضا واحدة من الروايات النادرة في تاريخ الأدب التي حُدّد يوم ولادتها كفكرة أولا ثم ككتاب بعد ذلك. فكفكرة ولدت الرواية، -كما يخبرنا ماركيز بنفسه في كتاب ذكرياته الرائع «عشت لأروي»- يوم اصطحبته أمه العنيدة الى مسقط رأسه لكي يساعدها على بيع بيت العائلة الذي لم يكن رآه منذ زمن. في طريقه لمح يومها دكانا تسميه يافطته «ماكوندو» فخطرت فكرة المكان للمرة الأولى في باله. ثم حين وصلا الى البيت ونظر اليه مهجورا بائسا وحزينا ولدت الرواية. لكنه واصل كتابتها طوال 15 عاما لينجزها رغم فقره وجوعه فيما كان يشتغل في الصحافة التي بالكاد تقيم أوده مع زوجته الحبيبة مرسيدس. كانا فقيرين الى درجة عجزا عن دفع أجر البريد لإرسال المخطوطة الى الناشر فأرسلا نصفها وهما يخشيان ان يكون ما دفعاه إنفاقا بلا جدوى. نعرف اليوم أن خشيتهما لم تكن مبررة. فبعد خمسين عاما تحتل «مئة عام من العزلة» مكانة مذهلة في تاريخ الأدب وربما يمكن اعتبارها أكثر رواية قرئت في الخمسين عاما الأخيرة. وبالتأكيد واحدة من الروايات التي كُتب عنها أكثر من أي عمل أدبي آخر بحيث أن جائزة نوبل التي نالها ماركيز عنها وعن جملة أدبه في العام 1982، قد تبدو قاصرة عن إيفائها حقها. اليوم إذ تحتفل الحياة الأدبية العالمية بخمسينية حكاية أسرة بونديا واللعنة التي حلت عليها طوال قرن بأسره، فإنما تحتفل بعمل أدبي ساهم المساهمة الأساسية في إعادة الأدب الرفيع الى الشعب، في زمن كان كل شيء يشير فيه الى نهاية عصر الرواية!