صور مزيفة، حقائق مشوشة، معلومات منتقصة، أصوات متداخلة، صور متناحرة، شاشات متنافرة وأدمغة عربية بين مستقبلة ومرسلة في حوار حضاري مفتقد. «الحوار الحضاري» - أو بالأحرى افتقاده- في ظل منطقة عربية صاخبة تتصدر أخبارها الدموية نشرات الأخبار ومواقع عنكبوتية. عناوين جلسات منتدى الإعلام العربي في دورته ال16 التي استضافتها دبي قبل أيام يكشف عن حال إعلامي عربي يبحث أو يفتقد حواراً حضارياً. المدير العام لقنوات «أم بي سي» علي جابر وجد الإعلام عالقاً في طوفان هائل من المحتوى المتاح على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ما يضع المتلقي في صعوبة بالغة للتحقق من صدقية ما ينهال على رأسه. أما النتيجة، فأخطار هائلة وكوارث طاغية. حقيقة ضائعة بين جبال من الصور المشوهة والمعلومات المتداخلة غيرت مصائر أمم، ولكن فرضت على الإعلاميين في شتى وسائل الإعلام التقليدي واجباً لمواجهة الواقع الكارثي، مع واجب حتمي للمواجهة ولو من أجل أجيال جديدة تستطيع التمييز بين الحقيقة والكذب. «ما بعد الحقيقة» و «حقائق بديلة» و «أخبار مفبركة» تتوالى على رؤوس الجميع. يقول جابر: «إننا لم نعد قادرين على استيعاب هذه المصطلحات التي أصبحت واقعاً في الإعلام وحواراته، ما يعني أن الحقيقة تحولت قيمة نسبية تقاس بنسب مئوية، وأضحى تصورنا الشخصي غير الموضوعي للواقع هو الحقيقة». «الحقيقة» التي يحصل عليها كثيرون لتشكل الرأي والتوجه، ومن ثم الاختيار في الانتخابات وتقرير وتغيير مصائر الأمم صار جزء كبير من منبعها مواقع التواصل الاجتماعي، وهي المواقع– كما يوضح جابر– التي باتت بحسب دراسات تقدم خدمة الأخبار المصممة خصيصاً لمجموعات بعينها من المتلقين، حيث الأفراد من أصحاب التفكير المتشابه والرأي المتقارب يحصلون على الأخبار التي تناسب هذا التوجه بعينه. ونوه إلى بحث أشار إلى أن ثلثي الأميركيين البالغين يستقون الأخبار من مواقع التواصل الاجتماعي. لكن الشاشات التلفزيونية ما زالت تؤثر حتى وإن كانت تتأثر. وإذا كانت «حال صورة العرب» تتأرجح بين شاشات غارقة في الإرهاب والدماء وأخرى مفرطة في الأداء وثالثة محلقة في الفضاء، فإن تقرير «صورة العرب في الغرب» – وهو ثمرة تعاون نادي دبي للصحافة وصحيفة «عرب نيوز»- والذي عرضت نتائجه ضمن المنتدى كشف أن 81 في المئة من الأميركيين لا يستطيعون تحديد مكان العالم العربي بدقة على الخريطة! ويعتقد 21 في المئة أنّ «سلطنة أغربا» جزء من العالم العربي، على رغم إنها ليست سوى دولة خيالية في فيلم والت ديزني الكرتوني الشهير «علاء الدين». وبحسب «علاء الدين» فإنه يأتي من بلاد «يقطعون فيها أذنك إن لم يعجبهم وجهك»! رئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز» فيصل عباس تساءل: «هناك مشكلة في صورة العرب في الغرب. جميعنا يعلم ذلك. لكن السؤال هو ما مدى سوء الصورة؟ مراسلة محطة «سي أن بي سي» في الشرق الأوسط هادلي غامبل تقول، إن ذلك ناتج من الجهل والمناهج الأميركية المدرسية التي يتركز معظمها حول الداخل الأميركي، مشيرة إلى ضرورة تركيز الإعلام العربي والغربي على موضوعات تهم المواطن العادي بدلاً من الاكتفاء بالقضايا السلبية المتكررة. وسيلة غير مطروقة كثيراً عربياً لتوضيح الصور الحقيقية للشعوب هي «الديبلوماسية الثقافية». المدير التنفيذي في معهد الديبلوماسية الثقافية في برلين مارك دونفريد دعا العرب إلى الاستفادة من التجربة الألمانية في تصحيح صورة شعوبهم لدى الآخرين عبر الديبلوماسية الثقافية. المتحدث باسم الخارجية الأميركية للشرق الأوسط والخليج العربي ناثان تك تحدث عن تاريخ إيجابي للعلاقات العربية- الأميركية، منوهاً أن الجامعات الأميركية في العالم العربي جسور للتواصل المعرفي والثقافي وتأصيل ثقافة الحوار. الإعلام هو الوسيلة الأمثل لدعم ثقافة الحوار، هكذا تحدث المدير العام لقناة «العربية» الإعلامي تركي الدخيل في «حوار حضاري أتمناه». وهذا يحتم ضرورة الاستثمار في الكوادر الإعلامية الشابة لتحقيق الغايات المنشودة من الحوار. ولكن في «مهارات الحوار السياسي» لم يعد الإعلام طريقاً ذا اتجاه واحد، بل هو طريق مزدوج أشبه ب «السوق». المدير التنفيذي في مكتب التواصل مع الإعلام الأجنبي ريتشارد بوانجان يشبه الإعلام في الوقت الحالي بالسوق حيث الصخب والصوت العالي، بزبائن يبحثون عن بضائع بأرخص الأسعار، مع عارضين يقدمون ما لديهم، وإعلاميين يتحتم عليهم التأقلم مع مرحلة فقدان السيطرة على سوق الإعلام، وتعلم أدوات جديدة للمنافسة في السوق. وفي السوق العربية أزمات عربية حاول المنتدى أن ينظر إلى ما بعدها، لكن الواقع مرير. وبدت حدة مرارته في جلسة «ما بعد الأزمات العربية» التي حاول مديرها الإعلامي شريف عامر البحث عن تصور ما للأزمات، فوجد تحديات اقتصادية وتيارات شعبوية ودماراً عربياً وشروخاً اجتماعية خلّفها الربيع العربي، وفق ما قال رئيس المنتدى الخليجي للأمن والسلم الدكتور فهد الشيلمي. مشكلات الشباب العاطل أنه بات لقمة سائغة ل «داعش» وأخواتها. وبحسب مدير «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» ضياء رشوان فإن قدرة الجماعات الإرهابية والإسلامية المتطرفة على الانتشار واجتذاب الشباب تعود إلى مساندة وسائل إعلام عدة لها. ويرى أن الإرهاب ظاهرة إعلامية في الأساس، تبدأ بالقتل والذبح ثم التخويف والترويع عبر بث هذا المحتوى في وسائل الإعلام المختلفة. وأضاف أن وسائل إعلام خدمت أهداف الجماعات المتطرفة. وفي السياق ذاته، رأى الكاتب والإعلامي السعودي عبدالعزيز الخميس أن وسائل إعلام عدة دعمت الحركات المتطرفة وأفعالها، بخاصة خلال ثورات «الربيع العربي»، وهو ما ظهر واضحاً في القضية السورية وتوصيف ما يقوم به فصيل إرهابي بأنه ثورة عادلة لرد الحقوق الاجتماعية لأصحابها. وقد أثارت هذه الجلسة غضباً شديداً من أحد الحضور في القاعة، إذ اعترض على ميل رشوان والخميس إلى الدولة الفاصلة بين الدين والسياسة وترجيح كفة الدولة الوطنية، مستنكراً التوجه بسؤال غاضب «ألست مسلماً؟! وقد سلمت إسرائيل تماماً مما يعصف بالعالم العربي. يقول الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط: «لم أر أبداً أسوأ مما أراه الآن» (في إشارة إلى العنف والإرهاب اللذين يعصفان بالعالم العربي)، معتبراً المستفيدين الرئيسيين هما إسرائيل وإيران. وبسؤاله عن دور جامعة الدول العربية في المشهد قال: «الجامعة العربية انعكاس للإرادة والواقع العربيين. والواقع العربي يمر بأصعب لحظاته». لكنه أكد ألا بديلاً للجامعة العربية كونها إطار النظام الإقليمي العربي. وعلى رغم التحديات والتعديات، فإن الأمل في «الحوار الحضاري» قائم. وزيرة الدولة للتسامح في الإمارات لبنى بنت خالد القاسمي قالت إن تحديات تواجه الإعلام العربي حالياً، لكن ضبط الأمور لن يتحقق إلا بالحوار، وإن مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الإعلام العربي، منبهة إلى دور المواطنين في معرفة الحقيقة من دون التسليم بصحة الأخبار التي يتلقونها.