لم ينفع التدخل الروسي وحرب الكرملين الهجينة ضد القوى الديموقراطية والليبرالية خلال الانتخابات التشريعية في بلغاريا حليفه وأداته السياسية الحزب الاشتراكي(الشيوعي سابقاً) في الفوز بالحكم، كما كان حصل في الانتخابات الرئاسية قبل ثلاثة أشهر عندما سخّر الكرملين كل طاقاته السياسية والمالية والإعلامية لإيصال مرشحه الجنرال رومين راديف الذي يتربع الآن في الكرسي الرئاسي مكرراً دعواته لرفع العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا بسبب عدوانها على أوكرانيا واحتلالها القرم الذي يعتبره «أرضاً روسية»! نتائج الانتخابات وفق صحيفة «نيويورك تايمز» مثلت» خيبة أمل حقيقية للرئيس الروسي الساعي لاستغلال التصدعات والخلافات بين الدول الأوروبية لزيادة نفوذ وتأثير روسيا في العمليات والتطورات السياسية الجارية في أوروبا» وذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» أن «بلغاريا شهدت خلال الأشهر الأخيرة محاولات مستميتة من جانب القوى المدعومة من روسيا لحرفها عن المسار الأوروبي والأطلسي». وأشارت الى «أن التيارات القومية المتشددة والشعبوية واليسارية الغاضبة من موجات اللاجئين والإرهاب الإسلامي نجحت في مضاعفة أعداد ممثليها في البرلمان الجديد». ويتضح من النتائج النهاية المعلنة رسمياً «أن الحزب الحاكم (مواطنون من أجل التطور الأوروبي لبلغاريا) - غيرب - المنتمي ليمين الوسط حصل على العدد الأكبر من أصوات الناخبين (33,54 في المئة)، مقابل 27,92 في المئة للحزب الاشتراكي، و9,31 في المئة لجبهة القوى اليمينية المتشددة، و9,24 في المئة لحركة الحقوق والحريات (الحزب الاثني التركي) و4.26 في المئة لحزب (فوليا) وتعني (إرادة) بزعامة رجل الأعمال الشعبوي مارشيكي، وهو حزب تأسس قبل عدة أشهر مستنسخاً طريقة دونالد ترامب في تناول القضايا الداخلية والدولية. وتعد هذه الانتخابات التشريعية الثالثة خلال أربع سنوات في بلغاريا التي ستتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في كانون الثاني (يناير) العام 2018، وأجريت في أجواء محمومة من الصراعات الحزبية والخلافات السياسية حول المسار السياسي الذي ينبغي ان تنتهجه البلاد في ظل ما تشهده أوروبا من صراعات جيوسياسية وتدخلات سافرة لروسيا للتأثير في خيارات الناخبين في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لمصلحة القوى والتيارات الشعبوية والنازية الجديدة الساعية لتفتيت الاتحاد وتقويض الوحدة الأوروبية من الداخل. تدخلات مستميتة تحولت بلغاريا عبر الحزب الاشتراكي وتيارات سياسية أخرى متعددة ذات توجهات يسارية وقومية متطرفة يمولها الكرملين أداة لتمرير الخطة الروسية بدفع بلغاريا التي انقضت 10 سنوات على نيلها عضوية الاتحاد الأوروبي، وقبل ذلك بسنوات انضمامها الى حلف ال «ناتو» الى التمرد على هاتين المنظمتين بعد البريكزت. وكان الرئيس البلغاري السابق روسين بلفنلييف اتهم روسيا بالتدخل في الشؤون الداخلية لبلاده، وقال «إن الكرملين يعارضنا ويحاول زعزعة استقرارنا، ويسعى الى تدمير أسس الاتحاد الأوروبي». وبرأي رئيس الحكومة الأسبق ايفان كوستوف، فإن «الأخطار التي تهدد بلغاريا مصدرها روسيا وتركيا إضافة الى احتمال وقوعها في خضم كارثة إنسانية فيما لو ألغى اردوغان الاتفاق الموقع مع الاتحاد الأوروبي لوقف تدفق اللاجئين من الشرق الأوسط». وعلى الرغم من فوز الحزب الحاكم للمرة الثانية على التوالي في الانتخابات العامة، الا انه لا يتمتع بغالبية تؤهله لتشكيل حكومة لوحده، ما اضطره الى خوض مفاوضات صعبة للغاية مع الأحزاب الصغيرة مع «جبهة القوى اليمينية المتطرفة» التي تتشكل من تحالف تيارات وأحزاب قومية متطرفة ونازية جديدة لتشكيل الحكومة الجديدة، وذلك لأن الأحزاب اليمينية والليبرالية فشلت جميعها في تخطي حاجز ال4 في المئة للدخول الى البرلمان. زعيم الحزب الفائز بوريسوف أعلن منذ البداية موقفاً رافضاً أي شكل من أشكال التحالف مع الحزبين الآخرين (الاشتراكي وحركة الحقوق والحريات) لأن الأول يتبنى ايديولوجية يسارية، والثاني مصاب بلعنة الفساد والارتباط بمافيات داخلية وخارجية. ويتضح من مسار المفاوضات لتشكيل الحكومة أن (غيرب والجبهة المتطرفة) خضعا لابتزاز، لأن الخيار الوحيد المتبقي هو الذهاب الى انتخابات جديدة، وهو قرار يستحيل تحمل مسؤوليته كون تبعاته ستكون خطيرة وفي مقدمتها حرمان بلغاريا من الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي العام المقبل، ونقلها الى الدولة التالية في اللائحة، ما سيقضي على فرصها في ان تلعب دوراً متميزاً في رسم مسار التطورات السياسية الجارية في أوروبا، وتعزيز مكانتها السياسية وحصولها على دعم أكبر لمشاريعها وخططها التنموية. يتفق المحللون على ان رئيس الحكومة العائد الى السلطة وزعيم حزب غيرب بويكو بوريسوف سيواجه معارضة قوية من الحزب الاشتراكي الذي تمكن من اجتذاب أصوات الفئات الغاضبة والساخطة على الحزب الحاكم بسبب تردده خلال دورتين في السلطة في القيام بإصلاحات جذرية ومحاربة الفساد المستشري في مؤسسات الدولية. الحدث الأهم الذي أفرزته العملية الانتخابية يتمثل في نجاح الحزب الاشتراكي على الرغم من إخفاقه في الحكم في ثلاث حكومات أدارها من قبل، في مضاعفة عدد نوابه في البرلمان الجديد من 40 الى 80 نائباً». ويستبعد أستاذ العلوم السياسية في جامعة صوفيا اوغنيان منتشيف في حديث ل «الحياة» ان «يستغل الحزب الاشتراكي هذه الفرصة لترسيخ شعبيته في المجتمع وجذب المزيد من المؤيدين والانصار استعداداً للانتخابات القادمة عبر وضع حد لنفوذ مجموعة الاوليغارشيا التي تهيمن على مراكز القرار في قيادته، وترتبط بعلاقات مشبوهة مع جماعات نفوذ في روسيا تمتلك روابط مباشرة برئيسها بوتين، وان يتجرأ ويوقف دعمه للنموذج المافوي في إدارة الدولة وثرواتها، وان يقف علناً وصراحة ضد دمج السلطات مع بعضها البعض كما دأب خلال العقود الثلاثة الأخيرة». منبهاً الى «أن قيادته استخدمت خلال حملاته الانتخابية خطاباً معادياً للتغييرات الديموقراطية والخيارات الأوروبية، وجهدت من اجل نسج وبث النوستالجيا بالماضي الشيوعي والدور الروسي في تحرير البلاد من النير العثماني والأخوة الارثوذكسية والسلافية التي تجمع الشعبين البلغاري والروسي». وأضاف: «حاول الحزب شحذ وتأجيج النزعات القومية لدى الفئات المتقدمة في السن التي تحملت آثار وتبعات المرحلة الانتقالية الصعبة من الديكتاتورية الى الديموقراطية في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وضاقت ذرعاً بنتائج الانكسارات الاقتصادية والاجتماعية والبنيوية التي عاشتها البلاد طيلة فترة السنوات ال25 المنصرمة». بالرغم من هستيريا العودة الى أوهام الماضي الشيوعي، أظهرت معطيات الانتخابات رفض جيل ما بعد النظام الشيوعي تحميل الديموقراطية والاتحاد الأوروبي المسؤولية عن مساوئ عملية الانتقال كونه ولد ونما وترعرع في حضن الديموقراطية وتنشق الحرية وقطف ثمار وفوائد العضوية في الاتحاد الأوروبي». ويشكك أستاذ العلوم السياسية في جامعة صوفيا دانيال سميلوف» في إمكان قيام الحزب الاشتراكي بقطع صلة الرحم التي تربط قياداته بالمافيا والاوليغارشية المتحكمة بالمال العام وأموال الصناديق الأوروبية» واستدرك: «لو افترضنا حصول ذلك فبالتأكيد سيكون قادراً على حشر بوريسوف في زاوية ضيقة وإذاقته مرارة الحكم بشكل لن يكون بمقدوره ان يواصل تجاهله كما ظل يفعل حتى الآن ضغوط قوى سياسية (ليبرالية ويمينية) كانت داخل البرلمان واصبحت خارجه، ومع ذلك ما زالت تتمتع بحضور شعبي كبير في الشارع، والانصياع الى ما تطالب به من تشريعيات تسهم في وضع حد لسيطرة المافيا السياسية على السلطة القضائية، والشروع بإصلاحات حقيقية تقود الى ضرب معاقل الفساد على غرار نموذج رومانيا المجاورة التي ألقت بسياسييها ومسؤوليها الفاسدين في السجون». ويرى كوستوف «أن بلغاريا تعيش أزمة سياسية عميقة مستمرة منذ العام وحتى الآن 2013»، وقال «إن المواطن البلغاري لم يعد يثق بنزاهة الأحزاب والسياسيين، ولا يؤمن بأنها منحازة لقضاياه وهمومه، ويتهمها بالفساد والتحالف مع المافيا ومع قوى خارجية على حساب مصالح المجتمع والدولة». حزب اشتراكي بخطاب قومي متطرف أثار الخطاب الشعبوي للحزب الاشتراكي الذي يفترض انه ينتمي الى أحزاب الاشتراكية الديموقرطية الأوروبية خلال حملاته الانتخابية استغراب ودهشة المراقبين والمحللين والسياسيين في أوروبا، وقال المحلل في «دويتشه فيلله» ياسن بويجييف» أن هذه الحزب يبدو أكثر قرباً لليسار المتطرف في أوروبا مثل(سيريزا) اليوناني، و(بوديموس) الإسباني التي تتموضع في الجبهة المناهضة للمشروع الأوروبي منه الى الاشتراكية الديموقراطية الأوروبية». كشفت الانتخابات الرئاسية التي أجريت أواخر العام المنصرم ان الشعب البلغاري يتطلع الى تغيير جذري في طريقة أداء الحكم، وتصفية مخلفات النظام الشيوعي من خلال تطبيق إصلاحات جذرية حقيقية وليست تجميلية، وإزاحة السياسيين المخضرمين، وتبين ذلك بوضوح في تصويت فئات مختلفة في توجهاتها السياسية والايديولوجية لمرشح الاشتراكي القادم من المؤسسة العسكرية الذي جرى تقديمه كمستقل ومن خارج المنظومة السياسية في تعارض مع الواقع والحقيقة، ولكن الأحزاب التقليدية وفي مقدمتها الحزب الاشتراكي مضت في خداع الناخبين الذين استسلموا لماكينة الأخبار الكاذبة، واكتفت بضخ وجوه جديدة غالبيتها ذات ارتباطات شائكة وتتميز بتطرفها السياسي ومواقفها الغرائزية ومجاهرتها بالعداء للعضوية في الاتحاد الأوروبي والحلف الاطلسي، وترفع شعارات تدعو للتحالف مع روسيا في اطار الاتحاد الاوراسي. يقول المحلل السياسي برفان سميونوف: «ازدحمت لوائح مرشحي الأحزاب بشخصيات تفضل الركون الى نظرية المؤامرة في تفسير الحوادث، والاتكاء على مؤسسات الميديا للترويج لأخبار كاذبة لجذب اكبر عدد ممكن من أصوات الناخبين البسطاء من خلال حرفهم عن التفكير بقضايا ملحة ذات صلة بالفساد والحقوق وهموم الحياة اليومية». تتموضع بلغاريا في المراتب الأدنى في التصنيفات الأوروبية والدولية في مجال حرية الصحافة التي خضعت خلال السنوات الأخيرة الى تقييدات كبيرة بعد سيطرة الاوليغارشية والمافيات والقوى السياسية المرتبطة على العدد الأكبر من مؤسسات الميديا، فبعد ان كانت في المرتبة ال36 تدهورت الآن وبعد 10 سنوات الى المرتبة 113 في تقرير منظمة «مراسلون بلا حدود». ووفق التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية، فإن «بلغاريا تحتل المرتبة ال75 في الفساد للعام 2016» مسجلة تراجعاً في التصنيف الأوروبي مقارنة بالعام 2015 حين احتلت المرتبة ال69». ويعكس هذا الرقم ليس فقط انعدام اي تطور في اطار فترة زمنية طويلة نسبياً مقارنة بالبلدان الاعضاء في الأوروبي، وانما يؤشر وبشكل اكبر التراجع مريع عن الوضع السابق بحيث تدحرجت الى المرتبة الاخيرة». وفي السياق نفسه اعتبر التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأميركية للعام الماضي «ان الفساد ما زال يشكل عبئاً ثقيلاً على الحكومة لدرجه انه يزعزع ويقوض ثقة المجتمع والشركات الاستثمارية في مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها السلطة القضائية». وتفيد دراسة أعدها معهد بحوث الاقصاد والسوق الحرة «ان خطاب وميكانيزم الاقتصاد الشعبوي، وانعدام استقلالية المنظومة القضائية، وغياب مؤسسات الميديا المستقلة كلها عوامل تعرقل المسيرة الديموقراطية في بلغاريا». ويتضح من دراسة أعدها مركز «ترند» للتحليلات السياسية والاجتماعية «ان واحداً من كل اربعة بلغاريين تتراوح اعمارهم بين 18 – 29 يفكر في الهجرة من البلاد». وأعرب 61 في المئة من المشاركين في الاستطلاع من ذوي الأعمار المتقدمة عن مخاوف حقيقية من تحولهم الى ضحايا لعصابات الجريمة في البلاد». وأظهرت الدراسة «أن 900 الف شخص تعرضوا لعمليات احتيال منظمة خلال السنوات الأخيرة».