يفتح الروائي المصري الشرقاوي عزت القمحاوي، بعد إتقانه للبناء المحكم في «مدينة اللذة» (1997)، و «غرفة ترى النيل» (2004) ثم «الحارس» (2008)، الباب على مصراعيه في رواية «بيت الديب» (الآداب، 2010) ليقدم ما يكاد أن يكون رواية تأسيسية، وهو الشكل الذي قدمه غوته الألماني في روايته «فيلهلم مايستر» في نهاية القرن الثامن عشر ثم انتشر في أوروبا عندما قام توماس كارلايل الانكليزي بترجمة الرواية عام 1824. تعتمد رواية التأسيس (bildungsroman) على تتبع رحلة الشخصية الرئيسة من البراءة (أو الطفولة) حتى النضج، وغالباً ما تبدأ بفقد عاطفي مروع يدفع الشخصية لبداية مسار الرحلة. في رواية «بيت الديب» يتتبع عزت القمحاوي مسار بلد بأكمله عبر «كتابة» تاريخ قرية العش (اسم مخترع) في محافظة الشرقية منذ وصول الحملة الفرنسية حتى الاحتلال الأميركي للعراق. تضم الرواية ما لا يقل عن أربعة أجيال، تتكرر الأسماء ويتشابه الحفيد مع الجد أو يختلف عنه وتتداخل العلاقات بشكل لا يمكن وصفه إلا بأنه مدهش. تكمن الدهشة في قدرة الكاتب على منح الشخصيات الحرية الكاملة في تدبر مصائرها مع عدم فقدانه لدفة السرد في الوقت ذاته. مع تتابع الحكام على مصر يتغير المكان في شكله وجوهره والعلاقات العائلية والاجتماعية، وأيضاً علاقات الإنتاج، فيتغير البشر، ولا تتشابه الأجيال. هكذا بدلاً من أن تؤسس «بيت الديب» للبطل، تعمد إلى تأسيس (وربما شرح وتفسير) التاريخ النفسي والاجتماعي للفلاح المصري. ولذلك يبدو غريباً التعليق الذي كتبته موسوعة «ويكيبيديا» في وصف قرية «بيت الديب» أنها بين الواقع والخيال، فالقرية واقعية تماماً (بالمعنى الحرفي)، وتجلت موهبة الكاتب في قدرته على رسم شخصياتها ودمج رؤيتهم للعالم في سماتهم الأساسية وفي الكيفية التي اشتبك بها كل منهم مع الحياة، سواء داخل العش أم خارجها. أيهما أكثر إغراء للكاتب، التاريخ العام الذي يحكي القصص الكبرى وتزينه بعض الشخصيات الروائية التي غالباً ما ينحسر دورها في إيصال رسائل، أم التاريخ الخاص الذي يقع في غرام الشخصيات فتتموضع من تلقاء نفسها (بحرفية الكاتب) في السياق السياسي والتاريخي والاجتماعي الملائم لها؟ انحاز القمحاوي للاختيار الثاني كلياً، فكان مصير (وتاريخ) كل شخصية - رجلاً أم امرأة - مؤشراً على الحراك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. تدل كل واقعة على حدث ما، بخاصة تلك الأحداث المتلاحقة المتعلقة بالحروب، مثل الحرب العالمية الثانية، وحرب 67 وحرب 73. ثم هناك أيضاً انحيازات الفلاح المصري لمقاومة الاحتلال البريطاني والغبن بمعظم أشكاله كما ظهر في قصة منتصر الذي غادر غاضباً لفقد مباركة وأقسم على الانتقام من عمه مجاهد ثم انخرط بعد ذلك في مقاومة الاحتلال على غرار روبن هود وأدهم الشرقاوي. أما الحدث الدال، فهو قيام سلامة ابن مجاهد بتأسيس مصنع النسيج بعد عودته من الحرب، فكان ذلك إعلاناً عن بوادر تحول الريف ودخول قيم الحياة الصناعية رويداً على تلك الخاصة بالمجتمعات الزراعية. وإن كان ذلك لم يمنع كل الموروث الزراعي من الاختفاء تماماً. فهناك مقام الشيخ الساكت (لأنه صمت فترة طويلة ثم مات) الذي يتعلق به الجميع وينذرون تجديده دائماً، وهناك فكرة «الزواج من تحت الأرض». فقد ظل تفسير عدم الرغبة في الزواج مرتبطاً بالجن كما حدث لناجي الذي اعتاد جسده على مباركة، حتى أن «الخالة حميدة» أكدت أنها رأته بنفسها وهو يعاشر الجنية، وهو قول يقيني يحمل دلالة على التواطؤ الكامل الذي يتحكم في علاقات القرية التي تسير - عكس ما هو متوقع - طبقاً لقوانين صارمة يعرفها الجميع، فمجاهد زوج مباركة كان واثقاً أن سالم ليس من صلبه، كما كانت تفيدة زوجة سلامة على يقين من وجود علاقة سرية بين مباركة وناجي. لكن الصمت - القانون الأول لقرية العش - هو الذي يدفع بعجلة الحياة، ويتآلف معها، ويمنع الحديث عن اختلاط الأنساب. تتألف الرواية من أحداث صغيرة لا يتدخل فيها الكاتب بل يقدمها من خلال تشابك المصائر وافتراقها فتلقي بالضوء على السياق الذي تقع في داخله، سواء كان سياقاً سياسياً أم اجتماعياً. وبذلك يترك العمل مساحة كبيرة للقارئ ليساهم في ربط فسيفساء الأحداث فيحصل على الصورة كاملة في النهاية. تعتمد «بيت الديب» على النساء وكأنهن العمود الفقري للحدث، بل لنشأة القرية ولتاريخها صعوداً وانحداراً وتحولاً. تبدأ الرواية بمباركة التي تملأ رائحة منتصر حياتها وتنتهي بمباركة التي تسأل أحفادها عن إمكانية إرسال رسالة على الانترنت لله! وفيما بين البداية والنهاية تجيء نساء عبر النسب وتذهب أخريات بداء الكوليرا ولا يبقى إلا مباركة ومسعدة زوجة علي الذي ذهب مع ضحايا الكوليرا، فتزوجت سلامة بعد أن ماتت زوجته تفيدة أيضاً. حتى سلامة الذي تساوى مع مباركة في تسيير الأحداث بصفته العمدة وكبير العائلة رحل بالتحديد يوم موت جمال عبد الناصر، وقد انتهز الكاتب الفرصة بمهارة وصور الجنازة، فيختلط الأمر على القارئ والشخصيات إن كان الحزن على العمدة أم الرئيس! في كل الأحوال هو دلالة على رحيل السلطة، مما يفسح المكان بأكمله للنساء. تعود نجية الحدباء من فلسطين، بعد أن تزوجت في ما يشبه سوق النخاسة، ومعها ابنتها زينة (الفلسطينية الحلوة)، وتعود عطية التي هربت أثناء دراستها في القاهرة مع نجار، فيلتئم شمل فسيفساء السرد مرة أخرى، وتبقى مباركة وكأنها الشاهد العيان على الأحداث، على الموت والحياة، الزواج والتناسل، على الفقد والشبق، على الشباب والشيخوخة، على الحرب والسلم. تبقى مباركة على رأس «جيل السبعين». ففي ليلة زواجها حبلت سبعون امرأة مما يرسخ دلالة شخصية مباركة في السرد، فهى مصدر للضوء والخصوبة، مما يعوض فقدان القرية لشبابها اثر التحولات المدنية - وأهمها تشوه المكان عبر المباني الأسمنتية القبيحة - التي لم ترحمها. تتغير التركيبة الاجتماعية للقرية وتبقى مباركة كما هي: تودع وتنتظر، تستقبل وترعى، ولا تتوقف عن انتظار منتصر وتعقب رائحته حتى أنها في النهاية يختلط عليها الأمر بين منتصر وحفيده الذي قرر أن يعود إلى العش بالرغم من الخيارات المتاحة له، وكأن رائحة مباركة جذبته لتلك القرية الصغيرة بدلاً من العالم الكبير. يفرد الكاتب مساحة للنساء، مساحة تمتلئ بأحزانهن وأشواقهن المغلفة بالصمت الدائم. وهي المساحة التي يتكثف فيها التضامن والتعاضد، كما حدث بين حفيظة ومباركة، حتى أن الزوج - مجاهد - أصبح حائراً بينهما ولم يجد لنفسه مكاناً. تبقى النساء أيضاً همزة الوصل بين المدينة والقرية، فالرجال النازحون إلى المدينة لا يرون سوى النساء السافرات، والنساء النازحات إلى المدينة يعدن وقد اكتسبن عادات جديدة. كل ما عرفته قرية العش من تطور (الراديو، المصنع، حمالات الصدر على سبيل المثل) جاء من المدينة وكل من فقدته القرية كان بفعل إغواء المدينة. إلا أنه يحتسب للكاتب - وهو فلاح أصيل من منيا القمح - أنه لم يسقط في فخ التيمة المعتادة التي تدور حول إغواء نساء المدينة لابن القرية الطيب الساذج. صور القمحاوي القرية المصرية كما هي بكل ما تحمله من سذاجة ولؤم وفطرة وتسليم بالأمر الواقع. «بيت الديب» عمل يدور في قرية أسسها في البداية أغراب فكتب عزت القمحاوي ما يؤسس لحياة القرية التي عرفت المساواة الكاملة في طور تأسيسها. الكتابة توثق الحكاية.