لم تتطرق وثائق موقع «ويكيليكس» للموقف من تنظيم «القاعدة» - حتى تاريخه - إلا مرتين، أولاهما ما نشر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي عن احتمال تورط تركيا في دعم أعمال العنف في العراق وأفغانستان، واتهامها بالتقاعس عن ضبط حدودها أمام مرور الرجال والتسليح والتمويل اللازمين لمقاتلي التنظيم في العراق... وكان ذلك ضمن 293 ألف وثيقة سربها «ويكيليكس» عن الحرب في العراق. أما الثانية فنشرت في 3 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وتتعلق بموقف الرئيس اليمني علي عبدالله صالح من التدخل الأميركي لتعقب القاعدة على الأراضي اليمنية، وذكرت أنه لم يمانع هذا التدخل، ويسمح به من دون أن يعلنه ويخلي مسؤوليته من جرائره، وكان ذلك في حديث لمسؤول أميركي في أيلول (سبتمبر) عام 2009. ونشر موقع «شموخ الإسلام» يوم الأربعاء 15 كانون الأول الجاري رؤية القاعدة لوثائق ويكيليكس في مقال حمل عنوان «ويكيليكس... التمرّد الحديث على الجيوش الحديثة»، موقع باسم «اسد الجهاد 2» وحاملاً شعار «المكتب الإعلامي للقاعدة». تبدو هذه الوثيقة - المواقف مختلفة - كما كان حديث بن لادن عن الاحتباس الحراري مختلفاً - فهي جاءت خالية من الاستشهادات الدينية ومليئة بالاقتباسات من أمثال إدوارد غالينو وروبرت فيسك وآمي جودمان صاحبة كتاب «الديموقراطية الآن» وآلان برنكلي عميد الصحافة في جامعة كولومبيا في الثمانينات، وغيرهم من رافضي ما يرونه الهيمنة الاميركية على الإعلام والعالم. كما ورد ذكر وتمجيد آخرين كنعوم تشومسكي وويليام بلوم (صاحب كتاب «الدولة المارقة») وغيرهم من نقاد الولاياتالمتحدة وسياساتها. وترى الوثيقة في تسريبات ويكيليكس شروخاً في القوة الأميركية الحديثة والمتغطرسة، وبخاصة فضائحيتها التي ترى القاعدة انها أزالت فكرة أميركا ك «قوة ناعمة» أي نموذج قابل للاحتذاء والتصدير والاتباع، وإن لم تؤثر في قوتها الصلبة. وترى القاعدة أن ويكيليكس يمثل تمرداً كبيراً داخل الإدارة الأميركية اعتراضاً على سياساتها، بعد أن عجزت الاستقالات والتحفظات منذ أحداث الحادي عشر من ايلول، والتي تمثلت باستقالة الجنرال ستانلي ماكريستال الذي استقال - أو أقيل بمعنى أصح - في حزيران (يونيو) الماضي، بل تشير القاعدة الى استقالات أخرى من دون أن تذكرها، وترى أن مثل هذا التمرد لم يعد يؤثر في الإدارة الأميركية والجيوش الحديثة، وأنه قد لزمت الحاجة الى تمرد من نوع جديد تراه في ما تم في تسريبات ويكيليكس. وترى القاعدة في تسريبات ويكيليكس، بحسب الوثيقة ذاتها، تمرداً بطريقة حديثة على جيوش الولايات المتّحدة وحلفائها في حربهم ضد القاعدة، عبر «تسريب عدد كبير من المتمرّدين في الجيش الأميركي وبعثاته الديبلوماسيّة لمئات الألوف من الوثائق السريّة. انه تمرّد بطريقة حديثة ستؤثّر تأثيراً بالغاً في السياسات الأميركيّة وفي مكانتها العالمية». وتبدو تسريبات ويكيليكس في تصور القاعدة ثورة ضد الإعلام المسيّس الذي تسيطر عليه الإدارة الأميركية، وتعليمات جون أشكروفت وقانونه - المعروف باسمه - حول حرية المعلومات، والذي واجه اعتراضات شديدة من الكثير من منظمات حرية التعبير، والتي تصفها القاعدة بأنها «كرست الدولة البوليسية». وترى القاعدة في تمرد ويكيليكس تأكيداً لنبوءات حدوث انفجار إعلامي يكشف ويخلع تدجين الصحافة الغربية السائدة، كما قال روبرت فيسك في أيلول 2005، وتنقل القاعدة عنه قوله: «وفي إحدى المراحل سيكون هناك تفجّر من النوع الذي لا يمكن تفسيره من أصحاب السلطة. لا أعرف ما الذي سيحدث، لكنّه سيحدث حتماً، ثم تؤكده القاعدة إسقاطاً على ويكيليكس بأن هذا التفجّر قد حدث «ومن النّوع الذي لا يمكن تفسيره من أصحاب السلطة من خلال تسريب الجيش والدوائر الرسميّة الأميركية وثائق ويكيليكس، مرغِمين بدفعهم كل وسائل الإعلام العالميّة على نقل الحقائق التي أتوا بها». ولكن القاعدة لا تأمن ويكيليكس كلية فهي تنقل - من دون اعتراض - عن نائب رئيس مجلس النوّاب وزعيم الحزب الليبرالي الديموقراطي الروسي فلاديمير جيرينوفسكي قوله إن «كشف مثل هذه الوثائق أمام الرأي العام العالمي مجرّد بروباغاندا لتغطية الإدارة الأميركية على خسائرها وسياساتها الفاشلة في أفغانستان... إن ما يثبت ذلك أيضاً فشل حزب أوباما في تحقيق الغالبيّة في الكونغرس وتواصل الخلافات المستمرّة، إضافة إلى المشاكل الأميركيّة مع كل من الصين وكوريا الشّماليّة»، وزاد انه «على رغم أن 80 في المئة من المعلومات التي نشرها موقع ويكيليكس دقيقة، لا يستبعد إضافة واشنطن بعض المعلومات المغلوطة»، وهو ما توافقه القاعدة عليه، اذ تشك بدرجة ما في الوثائق التي لم تنشر شيئاً عن إسرائيل أو عن الحرب على الإرهاب، ولكن من دون ان تشير الى الهدف من ذلك. الأرجح ان القاعدة أرادت استغلال تسريبات ويكيليكس لمصلحتها، وأرادات التماهي مع مدارس واتجاهات معاداة أميركا المختلفة، ولكنها بالغت في تأثير هذه الوثائق التي يبدو أنها لم تكشف سوء ادارة أوباما بمقدار ما كشفت انطباعات ديبلوماسييها عن زعماء من محالفيها وأعدائها، من كارزاي الى نجاد، ومن المالكي الى على عبدالله صالح وغيرهم.