أجمعت الميديا الغربية على وصف الانتخابات الرئاسية في فرنسا بأنها (تاريخية) كونها وجهت (صفعة قاصمة) للنخبة السياسية التقليدية في البلاد. وذكرت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية» أن الانتخابات عكست الأزمات الحادة التي يعيشها الغرب عموماً والتي أدت الى صعود اليمين المتطرف في شكل مخيف، ودفعت البريطانيين الى التصويت لخروج بلادهم من عضوية الاتحاد الأوروبي، كما دفعت الأميركيين الى انتخاب ترامب. أظهرت الانتخابات الفرنسية برأي محلل الشؤون الفرنسية ستيفان تافروف» شكل ومحتوى الانقسام السياسي المعاصر الذي تحدده الرؤى المختلفة لمستقبل فرنسا، ما يعني أن الجولة الثانية تطرح أجندة واضحة تتمثل في الانفتاح ضد الانغلاق، الوحدة الأوروبية ضد الانعزالية المتلفعة بعباءة السيادة الوطنية واستقلالية القرار، وخيار المستقبل ضد الماضي». واعتبرت مجلة («شبيغل» الألمانية أن «حصيلة زعيمة الجبهة الوطنية القومية المتطرفة مارين لوبن يمكن اعتبارها نجاحاً وفشلاً في آن واحد، لأن حزبها أخفق في الدخول الى الجولة الثانية بصفته قوة سياسية ذات زخم وثقل أكبر». يقول المحلل شتيفان سيمونس على موقع «دويتشه فيلله» الألماني: «اعتاد الفرنسيون خلال كل الانتخابات الرئاسية على إطلاق العنان للعاطفة والمزاج الشخصي عند الاقتراع في الجولة الأولى، فيما في الثانية يحتكمون الى منطق المصلحة الشخصية في الإطار السياسي والمجتمعي العام وسياقاته المتعددة. بمعنى آخر إنهم في البداية ينتخبون أياً كان، ومن ثم ينحون جانباً من يؤمنون بأنه ضار وغير مناسب». يقول المؤرخ الفرنسي بيار روزانفالون: «صارت الديموقراطية تستند أكثر الى الانفعالات والمعتقدات مما الى الأفكار». ويتساءل المعلق الأميركي في صحيفة «نيويورك تايمز» روجر كوهين: «هل بمقدور متعلم في مدارس النخبة الفرنسية، ومصرفي ووزير اقتصاد سابق في حكومة رئيس بلا شعبية، أن يفوز في زمن تفيض فيه مشاعر القرف والاشمئزاز والغضب الشعبي من السياسيين والأحزاب التقليدية؟». ويجيب بأن التهديد والخطر الأكبر الذي يواجه ماكرون الذي يطرح نفسه كوجه سياسي جديد، وهو جزء من المنظومة السياسية السائدة ونتاجها، أن يكون واثقاً الى حد الاحتفال الصاخب بأن فوزه بالجولة الأولى يعني تلقائياً فوزاً في الثانية. ماكرون وفقاً لكوهين» يجب أن يفوز في 7 أيار- مايو، لا أن يقف مكتوف اليدين بانتظار أن تخسر لوبن». وقال إن الهوة الساحقة التي تفصل بين مراكز المدن المعولمة والاقاليم المكبوتة والمهملة والتي تسببت في اهتزازات سياسية في بريطانيا والولايات المتحدة تلوح بل وتتجسد بوضوح في فرنسا أيضاً، وهناك تلعب لوبن على أوتار أنين سكانها العاطلين من العمل والغارقين في أعماق الغضب». لوبن: بضاعة الأوهام الرائجة ومع أن كل مراكز استطلاعات الرأي أجمعت على أن ايمانويل ماكرون سيفوز في الجولة الثانية بكرسي الرئاسة الفرنسية، إلا أن ماكرون أقر بأن «لا شيء محسوم» وذلك بعد ساعات من تحذير الرئيس فرنسوا هولاند من «أن فوز ماكرون على لوبن ليس مضموناً» داعياً الى «عدم الاستهانة بالنتيجة التي حقتتها الجبهة الوطنية». وينبه المحلل في وكالة استطلاع الرأي (Viavoice) فرنسوا ميكه- مارتي الى «أن لوبن ستسعى خلال حملتها الانتخابية للجولة التالية لتصوير الصراع على انه بينها كمرشحة لعامة الفرنسيين، وبين ماكرون مرشح نخب العولمة، وهي استراتيجية قد تحقق هدفها المنشود في ليّ ذراع الاستطلاعات التي ترجح فوز الشاب المستقل الذي يطرح نفسه بديلاً للنخب التقليدية اليسارية واليمينية على حد سواء «على غرار ما حصل في الانتخابات الأميركية. وفي محاولة لإقناع ناخبيها الذين أصيبوا بخيبة أمل من نتائج الجولة الأولى زارت لوبن سوق الأغذية الضخم في رونجي في ضاحية باريس، وقالت: «خصمي مرشح الأوليغارشية» وهو «دمية هولاند المحببة» و «نخبوي معولم» و «سياسي خرج من رحم المنظومة السياسية المهترئة»، وكررت قولها: «لدينا 7 ملايين عاطل من العمل و9 ملايين فقير، ومع ذلك نستقبل 200 الف أجنبي سنوياً». وقال مارتي إن «الدعم الذي أبدته الأحزاب التقليدية لماكرون يمكن ان يمنح خطاب لوبن قوة دفع في مجتمع منقسم على نفسه بين من يملك ومن لا يملك، لاسيما ان خطاب المرشحة الشعبوية وتقديمها نفسها مدافعة عن فرص العمل وحقوق العمال الفرنسيين ساعداها سنة بعد سنة على مراكمة المزيد من الأنصار والمؤيدين والناخبين». ونقلت وكالة «رويترز» عن مارتي قوله ان ماكرون يحتاج الى نهج اكثر هجومية كي يقنع الناخبين بأن رئاسته ستكون مبعث استقرار على خلاف منافسته لوبن التي تتوعد بأيام عاصفة لفرنسا وأوروبا. ويعي ماكرون حاجته الى عنفوان عدواني لمواجهة لوبن، فلقد لمح الى ذلك في خطابه الى انصاره بقوله ان «التحدي الذي يواجهنا منذ اليوم لا يتمثل في ان نصوت ضد أي كان، بل ان نعمل بحزم وبلا هوادة من أجل ان نضع حداً ونوقف نهائياً منظومة سياسية عاجزة عن حل مشكلات بلادنا منذ 30 سنة». ربما يكون أحد أكثر معطيات الجولة الأولى إثارة للقلق الأوروبي هو ان حوالى 41 في المئة من الناخبين الفرنسيين صوتوا لمصلحة اليمين واليسار المتطرف اللذين اشتركا في رفع شعار الخروج من الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو. ناخبو حزب اليسار المتطرف «حركة فرنسا الآبية» بزعامة جان لوك ميلانشون الذي وصفته صحيفة «لوموند» بأنه أصبح « فزاعة فرنسا الجديدة»، والذين تصل نسبتهم الى 20 في المئة لن يعطوا أصواتهم لماكرون الذي يكنون له مشاعر كراهية، وربما سيصوت بعضهم للوبن فالتطرف عنصر جاذب بقطبيه، لاسيما ان زعيمهم لم يفصح حتى الآن عن موقفه ويدعوهم الى التصويت لمنافس لوبن على رغم انه لم يكف عن مهاجمتها بقوة وعدوانية ويحذر من خطرها على مستقبل فرنسا طيلة حملاته الانتخابية. وحتى لو انتصر ماكرون في الجولة الثانية فإنه سيحتاج لتنفيذ سياساته الإصلاحية في السياسة والاقتصاد ومواجهة الارهاب فوزاً ساحقاً من دونه لن يقنع شخصيات سياسية نافذة ومؤثرة بدعمه في الانتخابات العامة التي ستجرى في حزيران (يونيو) المقبل. ويتفق المراقبون على ان إخفاق ماكرون في تحقيق نسبة فوز تفوق ال60 في المئة في الجولة الثانية ربما سيصعب عليه إمكان جذب فئات واسعة من المجتمع المنقسم على نفسه والذي صوت أكثر من 40 في المئة من أفراده لمصلحة التطرف، وإقناعها بامتلاكه المفاصل اللازمة التي سيستند اليها لتطبيق مشروعه الطموح والواعد بإصلاح ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو التي بدأت الآن وبصعوبة متناهية الخروج من نفق الركود الاقتصادي بعد خمس سنوات من الأزمة المالية والاقتصادية العاصفة في أوروبا. ماكرون تنبه الى ذلك في خطبته امام مؤيديه بعد إعلان فوزه بالجولة الأولى قائلاً «إن قوة الدفع التي حصل عليها ستكون محورية في تعزيز قدراته في الحكم. ويتضح من نتائج استطلاعين للرأي أجريا يوم الانتخابات انه سيحصل في الجولة الثانية بالتوالي على 64 في المئة، و62 في المئة. وكشف استطلاع للرأي أجرته وكالة «اودوكسا – دنتسو» ان «35 في المئة من الفرنسيين يعتقدون ان ماكرون هو المرشح الأفضل الذي بمقدوره ان يعيد الحيوية للاقتصاد الفرنسي، مقابل 20 في المئة فقط لمنافسته الشعبوية». يسار متطرف ويمين شعبوي يرفض الكثير من الفرنسيين وبينهم عدد كبير من مؤيدي لوبن وأنصارها موقفها من العملة الأوروبية (اليورو) ودعوتها الى قطع الأوصال مع الاتحاد الأوروبي، ما يوفر لماكرون ورقة تعزز هجومية مرتقبة منه في حملاته الانتخابية خلال فترة الأسبوعين حتى جولة الاقتراع الثانية، وذلك بطرح الأدلة والبراهين المعززة بالأرقام والدراسات لتشريح هزالة أفكار غريمته الشعبوية وإثبات انها لن تجلب سوى الكوارث لفرنسا والفرنسيين جميعاً. العملة الأوروبية دأبت الأحزاب الشعبوية وقادة اليسار المتطرف في أوروبا على تحميل العملة الأوروبية كل خطايا الصعوبات الاقتصادية والبطالة، ليس في فرنسا وحدها، وانما في كل البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي شهدت انتخابات او تلك التي تتحضر لإجراء الانتخابات خلال الأشهر المقبلة، فسعت نخب فيها الى ترسيخ فكرة الخروج من منطقة اليورو والعودة الى عملاتها الوطنية. ففي فرنسا تشاركت لوبن مع مرشح اليسار المتطرف جان لوك ميلانشون في ترديد الخطاب المعادي للمشروع الأوروبي مع اختلاف بسيط، اذ دعا المرشح اليساري المتطرف (شافيز فرنسا) وفق وصف الصحف الى إعادة النظر بالمعاهدات الأوروبية، أو إعلان الخروج من الاتحاد. وتدعي لوبن ان تخفيض فرنسا قيمة عملتها الفرنك زاد من زخم استيراد السلع والمنتوجات الفرنسية بصورة جعلت من الاقتصاد الفرنسي منافساً قوياً للدول الاخرى، كما تقول ان التخلص من إملاءات بروكسيل في ما يخص قيمة العجز الحكومي سيوفر فرصاُ اكبر لدعم الصناعة الفرنسية. الا ان المعطيات التي تقدمها مراكز البحوث الاقتصادية تدحض هذا الرأي. ووفق نائب رئيس مركز دراسات الاقتصاد العالمي (CEPII) آنا – لوري ديولا ان البضاع الفرنسية المصدرة ستكون حقاً ارخص بكثير عند خروج البلاد من منطقة اليورو، ولكن قيمة العملة الفرنسية في سوق العملات الاجنبية لن تكون كما كانت عليه من قبل وهي 6,5 فرنك مقابل اليورو، بل 8 فرنك لليورو على الاقل، وبالتالي فان رجال الأعمال والمستثمرين الاجانب سوف يستخدمون كمية اقل من العملات الاجنبية عند شراء السلع او البضائع من فرنسا. يقول أستاذ الاقتصاد في جامعة باريس اوليفيه باستريه ان «اكثر من سيتضرر من تخفيض قيمة العملة الفرنسية، الفئات الفقيرة من السكان»، ويضيف ان المواطن الفرنسي العادي سيتأثر أيضاً بارتفاع نسبة الفوائد المصرفية لان معظم محدودي الدخل الفرنسيين يعتمدون على القروض من البنوك في مواجهة احتياجاتهم الحياتية. ويتضح من بيانات رسمية ان فرنسا صدرت العام الماضي سلعاً وخدمات بزيادة تصل قيمتها الى اكثر من 48 بليون يورو. ويؤكد الخبير الاقتصادي في المجموعة الاستشارية (Cercle de IEtude) فيليب كريفيل ان «خروج فرنسا من منطقة اليورو سيؤدي الى كارثة اقتصادية خطيرة، لان الاتحاد الأوروبي عندها لن يكون قادراً على الصمود والبقاء كمنظومة اقتصادية من دون ثاني اكبر قوة اقتصادية في أوروبا بعد المانيا، كما ان فرنسا ستكون مضطرة لإعلان إفلاسها لاستحالة إمكان تسديد قروضها باليورو، لان لا أحد سيقبل الفرنك الفرنسي». ويزيد: «المصارف وشركات التأمين هي الاخرى ستشهر إفلاسها لأن ديونها في غالبيتها الكبرى بالعملات الاجنبية». ماكرون البالغ من العمر 39 عاماً حقق حتى الآن النجاح تلو الآخر، وتمكن بسرعة قياسية تؤهله لكتاب «غينيس»، من تأسيس حركة سياسية في ظرف سنة واحدة، تمكنت من استقطاب أعداد كبيرة من الشباب الفرنسي المتطلع لتغيير السياسة وتجديدها والتخلص من النخب التقليدية الفاسدة، وهو ما يحسب له ويفرض الإقرار بما يمتلكه من كاريزما على تجسيد الأمل بغض النظر عن المحاولات المستميتة للتشكيك به وتصويره كشاب تنقصه الخبرة السياسية والدهاء الديبلوماسي والتجربة العملية. يقول كوهين: «العدو الأول والأكبر لماكرون هو سقوطه في مستنقع الغطرسة وغرور الاستهانة بعدوته التي أصبح خطرها داهماً».