في زمن يسعى فيه جزء كبير من العاملين في مجال الموضة وتصميم الأزياء إلى النجومية والشهرة والإطلالة الدائمة في وسائل الإعلام ومنها المسابقات التلفزيونية، تتيح المتاحف المخصصة للموضة اليوم التعرف إلى مبدعين كبار في هذا المجال، اختاروا البقاء في الظل بعيداً من الأضواء فلا يعرف بنتاجهم إلا المتتبعون عن قرب لتحولات الموضة في الأزمنة الحديثة. تلك هي حال مصمم الأزياء البلجيكي مارتين مارجيلا Martin Margiela (60 سنة) الذي افتتح المعرض الكبير المخصص له حالياً في متحف الموضة «MOMU» في مدينة أنفيرس (أنتورب) البلجيكية التي تبعد ساعتين بالقطار السريع من باريس. وتحت عنوان «مارجيلا، سنوات هيرميس» يعرّف المعرض بنتاج مارجيلا عندما كان مديراً فنياً لدار هيرميس خلال الفترة الممتدة من عام 1997 حتى عام 2003. من المعروف أن «هيرميس» شركة عالمية أُنشئت في باريس في النصف الأول من القرن التاسع عشر وتخصصت بإنتاج المنتجات الفاخرة كالحقائب والاكسسوارات والثياب والعطور. أما مارتين مارجيلا فدرس الموضة في أكاديمية الفنون الجميلة في مدينة أنفيرس التي تخرج منها أيضاً مصممو أزياء فرضوا بصماتهم بقوة على عالم الموضة منذ الثمانينات، حتى أن مؤرخي الموضة يتحدثون اليوم عن المدرسة البلجيكية في الموضة. وفي 1988 أسس شركته الخاصة التي حملت اسمه، بعد أن كان قد عمل كمساعد للمصمم الفرنسي جان بول غوتييه في باريس. ولا بد من الإشارة إلى أن مارجيلا هو شخص متكتم جداً، لا يدلي إلا نادراً جداً بأحاديث صحافية، وإذا قبل الإجابة عن أسئلة الصحافيين فيكون ذلك بإرسال الأجوبة مكتوبة لهم وبدون لقاء مباشر معهم، وهذا ما يفسر عدم حضوره افتتاح المعرض المخصص له بأكمله، والذي شارك فيه مسؤولون من دار هيرميس كاشفين المزايا التي تحلى بها أثناء عمله معهم ومكنته من تجديد المجموعات النسائية وإدخالها في أساليب الأزمنة الحديثة. على رغم طبيعته الغامضة والمنطوية على ذاتها، فرض مارجيلا نفسه بقوة في عالم الموضة بفضل ابتكاراته التي تجسدت في أمور عديدة منها تعامله الجديد مع الأقمشة والجلد وإعادة استعماله لأقمشة وأزياء مستعملة، كأن يأخذ مثلا سروالاً قديماً ويحوله الى ثوب جديد. هناك أيضاً نزوعه نحو التجريد والتبسيط والتقشف مع الاعتماد على ألوان محددة كالأبيض والأسود والبني. باختصار يمكن القول إن أسلوبه قائم على البساطة المدروسة والجرأة حتى أن بعض المعاطف والفساتين والسترات تبدو هوائية وهندسية سواء كانت ملاصقة للجسد أو فضفاضة. هذه الثنائية الجامعة بين البساطة والجرأة منحته هويته الخاصة وميزته عن غيره من المصممين. فهو يعمل بتأن ويسعى دائماً إلى الجودة مهتماً بأدق التفاصيل ومنها الأزرار. من الأمور المهمة التي ركز عليها المعرض علاقة مارجيلا بعارضات الأزياء، فهو لم يكن أبداً يحب الاعتماد على العارضات النجمات بل يختار نساء غير معروفات ومن أعمار مختلفة وليس فقط الشابات. أما عروض الأزياء فتقام في أماكن مختلفة وليس فقط في الأماكن الفخمة، حتى أنه أقام مرّة عرضاً في إحدى محطات المترو. إلى جانب الأزياء التي تتميز بالبساطة والعمل على الأقمشة وشفافيتها وطواعيتها، نشاهد في المعرض مجموعة أخرى من الألبسة التي تتميز، في بعض الأحيان، بنوع من الجرأة وباستيحائها من «حركة البانك» التي سادت في السبعينات بحيث تبدو الأزياء غريبة وممزقة للتعبير عن التمرد والاحتجاج. على رغم النجاح الكبير الذي حققه في عالم الموضة، لم يتخل مارجيلا يوماً عن عزلته وظل منكباً على العمل حتى عام 2009 عندما ترك الدار التي تحمل اسمه والتي يتولى إدارتها الفنية منذ عام 2014 المصمم البريطاني جون غاليانو الذي عمل سنوات عديدة في دار كريستيان ديور. ويعزو النقاد انكفاء مارجيلا عن عالم الموضة إلى عدم رغبته في تكرار نفسه وحتى يحافظ على ما حققه من تميز وتفرد. وبمناسبة المعرض صدر باللغتين الإنكليزية والفرنسية كاتالوغ جميل وفخم عن دار»آكت سود» يختصر أجواء المعرض. وسوف يقام في باريس العام المقبل معرض استعادي حول نتاج مارجيلا وسيرته في متحف «قصر غالييرا» المخصص للموضة.