يحتدم النقاش بين كتلتي الحزبين الجمهوري والديموقراطي داخل الكونغرس، حول ضرورة إلغاء «قانون دود فرانك» الذي أقره الكونغرس عام 2010 واستبداله، عندما كانت تسيطر غالبية من الحزب الديموقراطي على الكونغرس بغرفتيه. ولعب «الركود الكبير» المندلع في خريف عام 2008 دوراً كبيراً في إقرار القانون المذكور، إذ على أثر إفلاس عدد من المصارف الكبيرة الاستثمارية والتجارية، واضطرار الحكومة إلى التدخل وفرضها على المصارف وبعض الشركات سلفات حكومية بلغ مجموعها 700 بليون دولار، أقر الكونغرس «قانون دود فرانك» الذي أجبر المصارف على الفصل بين ذراعيها الاستثمارية والتجارية، وحرمها المضاربة بإيداعات الأميركيين في أسواق المال. وتضمن الحكومة الفيديرالية الإيداعات الفردية بحد أقصاه 250 ألف دولار للمودع. وبسبب الاستثمارات المتهورة والمضاربة التي قامت بها المصارف قبل عام 2008، اضطرت الحكومة الأميركية إلى التدخل لضمان السيولة للغالبية العظمى من المودعين، وهو تدخل أثار ريبة الأميركيين، لأنه استهلك أموال دافعي الضرائب، فيما خرج مديرون في المؤسسات المالية الكبيرة من الأزمة بعلاوات بلغت عشرات وأحياناً مئات الملايين، فيما كانت مؤسساتهم تغرق في الديون. ويكاد الخبراء الاقتصاديون كما الرأي العام الأميركي، يجمعون على أن إلغاء «غلاس ستيغال» الذي أقر بعد أزمة 1929، هو الذي فتح الباب امام المؤسسات المالية للمضاربة بأموال المودعين، وساهم بذلك في خلق فقاعة هائلة في سوق المال «وول ستريت»، أدى انفجارها عام 2008 إلى إفلاسات كبيرة وإلى الإطاحة بالاقتصاد الأميركي وربما العالمي. وأمّنت الحكومة الأموال من طريق الاستدانة، وعلى رغم استعادتها التسليفات التي مدت المؤسسات المالية بها عام 2008، وحصولها على فوائد لهذه التسليفات تجاوزت 85 بليون دولار، إلا أن الرأي العام الأميركي لم يتابع تتمة العملية التسليفية أو استعادة الحكومة أموال دافعي الضرائب، فبقيت النقمة الشعبية عارمة. لكن قانون «دود فرانك» لا يقل ليونة عن سابقه «غلاس ستيغال»، بل إن الأول حرّم المضاربة بأموال المودعين كما برأس المال المصرفي، وفرض زيادات كبيرة على رؤوس الأموال المجمدة لدى الشركات المالية. وراح الاحتياط الفيديرالي يجري اختبارات متكررة ومناورات، تحاكي إمكان اندلاع ركود عالمي كبير، يرافقه ارتفاع مفاجئ يبلغ خمس نقاط مئوية في نسبة البطالة الأميركية. وفي الاختبارات، وإمكان قيام المودعين بسحوبات فجائية وسريعة بسبب الأزمة المالية والبطالة، نجحت المصارف الأميركية في تأمين السيولة من دون اللجوء إلى الحكومة الفيديرالية. وفي قانون «دود فرانك» تفاصيل أخرى لا تعجب المستثمرين الكبار، منهم الرئيس دونالد ترامب ذاته، لأنه حرّم على شركات الائتمان تقديم بطاقات تحمل ديوناً من دون فوائد في الفترة الأولى، ثم ترفع الفوائد من دون ابلاغ الزبائن أو بالابلاغ في «الخط الصغير» في أدنى صفحات العقود. وكانت هذه العادات، المعروفة ب «الرأسمالية الاستغلالية»، تعود على المؤسسات المالية بفوائد طائلة. وبذلك تعود على المديرين بعلاوات كبيرة، لكنها كانت تؤدي في الوقت ذاته إلى إفلاسات وحتى عمليات انتحار، في صفوف الأميركيين من ذوي المداخيل المتوسطة والمنخفضة. وبسبب شعبية قانون «غلاس ستيغال» لدى قاعدة الحزبين، عمد المرشحون للرئاسة إلى تقديم الوعود بإعادة العمل به. وشن الجمهوريون وترامب خصوصاً، حملة ضد قانون «دود فرانك». لكن تصريحات ترامب تجافي الحقيقة، إذ تظهر بيانات «المؤسسة الفيديرالية لضمان الايداعات»، أن القطاع المصرفي التجاري حقق أرباحاً بلغت 171 بليون دولار عام 2016، بزيادة بلغت 7.9 بليون دولار، أو ما يعادل 4.9 في المئة، عن أرباحه لعام 2015. وجاء في بيانات المؤسسة أن مصرفين من ثلاثة حققا أرباحاً، وأن 4.2 في المئة فقط من كل مصارف أميركا عانت من خسائر في العام الماضي. وتترافق البيانات عن تحقيق المصارف التجارية الأميركية أرباحاً، مع ارتفاعات قياسية في أسواق المال، تشي بأن المصارف الاستثمارية حققت بدورها أرباحاً، مع ما يعني انتفاء الحاجة إلى إسقاط الفصل بينهما أو القضاء على «دود فرانك». إلا أن العامل السابق في مصرف «غولدمان ساكس» غاري كوهين، والذي عينه ترامب رئيساً للمجلس الاقتصادي، يعد باستبدال «دود فرانك» ب «غلاس ستيغال»، ب «نسخة القرن الحادي والعشرين» على حد زعمه. وبعد التدقيق، تبين أن كوهين يسعى إلى استبدال كل المواد فيه التي تعوق عمل «غولدمان ساكس» وتعطي أفضلية لمنافسيه، بمواد تعوق المنافسين وتعطي افضلية ل «غولدمان ساكس». أي أن ورشة الاصلاحات القانونية التي وعد بها ترامب، مستفيداً من تأييد شعبي للقانون المُلغى عام 1999، هي في الواقع ورشة لمصلحة مصرف دون آخر، لا لمصلحة الأميركيين وقطاعهم المصرفي، أو اقتصادهم عموماً.