[... لم تعد المؤسسات الاقتصادية الأميركية الكبرى "أكبر من أن تُترك لتنهار"، إذ يمنح القانون الوكالات التنظيمية سلطات جديدة تشمل الاستيلاء على تلك المؤسسات العملاقة في حال تعثرها وتصفيتها في طريقة منتظمة...] أقرّ الكونغرس الأميركي أخيراً مشروع قانون يتضمن أوسع تنظيم للقطاع المصرفي منذ الركود الكبير في ثلاثينات القرن الماضي. ويمثّل التشريع ذروة الجهود التي قادها الرئيس الأميركي باراك أوباما لضمان عدم تكرار الأزمة المالية لعامي 2008 و2009. ينص المشروع على تأسيس وكالة لحماية المستهلك من مهماتها قمع الممارسات الاستغلالية للشركات التي تصدر بطاقات ائتمان والمؤسسات التي تمنح قروضاً عقارية. فجزء كبير من الخسائر التي تكبدتها سوق الرهون العقارية العالية الأخطار نتج عن عمليات إقراض مشوبة بالاحتيال استفاد منها مشترو منازل أميركيين لم يكونوا يملكون القدرة على تسديد قروضهم. ويعيد التشريع ترتيب الإشراف على الأسواق المالية، فيؤسس مجلس منظمين يجمع رؤساء الوكالات المختلفة للرقابة المالية. ويُتوقّع أن يلعب رئيس مجلس الاحتياط الفيديرالي (المصرف المركزي) دوراً كبيراً في المجلس العتيد. ويمنح القانون الوكالات التنظيمية سلطات جديدة تشمل الاستيلاء على المؤسسات المالية العملاقة في حال تعثرها وتصفيتها في طريقة منتظمة. ويؤمل أن تنهي هذه السلطات العمل بقاعدة سائدة في الولاياتالمتحدة تصف المؤسسات الاقتصادية الكبرى بأنها "أكبر من أن تُترك لتنهار"، ما يعني دعمها بأموال دافعي الضرائب، مثلما حصل عامي 2008 و2009 مع مؤسسات مثل "أي آي جي" العملاقة للتأمين. ويأمر المشروع المصارف الكبرى بزيادة ما تخصصه من رؤوس أموالها، المجموعة من حملة أسهمها، للتحوط من أي خسائر على صعيد القروض. لكن هذا التدبير لن يدخل حيز التنفيذ قبل خمس سنوات خوفاً من أن يدفع تطبيقه فوراً المصارف ذات الرسملة المتدنية إلى تقليص ما تمنحه من قروض، ما قد يصيب الاقتصاد المنتعش ببطء بشلل. ويتضمن التشريع ما يُعرف ب "قاعدة فولكر"، التي تحمل اسم بول فولكر، رئيس "المجلس الاستشاري للتعافي الاقتصادي"، وتحظر في جانب منها على المصارف المضاربة بأموال المودعين وقصر المضاربة على أموالها هي. ويشمل أيضاً جانباً من القاعدة ذاتها، جرى تخفيفه خلال مفاوضات جرت بين الديموقراطيين والجمهوريين في هذا الصدد. كان فولكر يرغب في منع المصارف من القيام باستثمارات محفوفة بأخطار في صناديق التحوط وشركات الملكية الخاصة (تشتري شركات متعثرة بالاستحواذ على أسهمها في البورصات وتسحبها من التداول قبل إدراجها مجدداً بعد ترتيب أوضاع الشركات)، لكن التشريع نص على سقف لاستثمارات المصارف في هذين المجالين يساوي ثلاثة في المئة من رؤوس أموالها. ويأمر القانون بضر بتسوية العمليات في سوق المشتقات المالية (أوراق مالية تخضع لمضاربات محفوفة بأخطار) المقدر حجمها بنحو 600 بليون دولار عبر فريق ثالث غير البائع والشاري. ويُؤمل أن يخفف هذا التدبير من احتمال توقف الشركات التي تصدر مشتقات عن تسديد ما يترتب عليها من ديون بسبب هذه الأوراق في حال تعثرت. ويفرض المشروع على المصارف عزل بعض من عملياتها في مجال التبادلات (نوع شديد المخاطرة وكبير الربح من المشتقات) بحيث تُجرى في مؤسسات تابعة لها على أمل خفض تعرض المصارف لخسائر محتملة. ويبدو التشريع متشدداً على نحو مفاجئ بعد معارضة الجمهوريين له، لكن ضبط وول ستريت يلقى استحساناً لدى جمهور كل من الحزبين مع اقتراب انتخابات منتصف الولاية الرئاسية في الكونغرس في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ويبدو أن هذا الأمر شجع المشرعين من الطرفين على تمرير التشريع، خصوصاً مع تزايد النقمة الشعبية على وول ستريت إذ دفعت مؤسسات فيها أنجدتها الحكومة بأموال دافعي الضرائب علاوات ضخمة لمديريها قبل أشهر، فيما يواجه "غولدمان ساكس"، أحد عمالقة وول ستريت، تحقيقاً بالاحتيال من قبل وكالات تنظيمية أميركية. وشنت مجموعات الضغط (اللوبيات) التابعة للمصارف حرباً ضروس على التشريع وهو لا يزال في مهده، وانتقد أوباما المصارف على "إطلاق جحافل من مجموعات الضغط وإنفاق ملايين الدولارات على إعلانات مناوئة للتشريع". وفيما تعافت الأسواق المالية خلال الشهور ال18 الماضية، عادت مصارف وول ستريت إلى تحقيق أرباح ضخمة، لكن معظم هذه الأرباح نجم عن نشاطات الاتجار التي سيلجمها القانون، خصوصاً أن تدخل فريق ثالث في بعض العمليات سيجبر المصارف على تبسيط العقود المالية وجعل أسعارها أكثر شفافية، ما سيخفض هذه الأسعار. ويُرجَّح أن يسرع المشروع الجهود الرامية إلى ضبط القطاعات المالية في مناطق أخرى في العالم، خصوصاً أوروبا حيث يدرس الاتحاد الأوروبي إنشاء "صناديق تسوية" تمولها المصارف جزئياً لتساعد في تصفية المصارف المتعثرة مستقبلاً بدلاً من ضخ أموال حكومية فيها، وحيث اتفق وزراء المال على وضع ضوابط لصناديق التحوط ومؤسسات الملكية الخاصة، على رغم معارضة قوية من قطاع المال البريطاني. يُذكر أن ثمة توافقاً عالمياً متنامياً على ضرورة فرض ضريبة كبيرة على المصارف وقمع لجوء المصارف إلى الجنات الضريبية.