بينما تزداد الأمم تقدماً، والحضارة المادية توسعاً، تزداد من جانبها التناقضات فشواً، والخصومات انتشاراً. وبغض النظر عمَّا يمكن أن يسجل عن المفارقات على هذا الصعيد، بين الأمس واليوم، حاول القضاة والقانونيون في الراهن، إجراء الإصلاحات القضائية، على نحوٍ تنتهي معه القضايا بسلاسة. من هنا كان الحديث عن حق المدعي في رفع القضية في البلد الذي يقيم فيه، خصوصاً إذا كان امرأة، سواءً كان المدعى عليه مقيماً في البلد نفسه أو في مكان آخر. توضح المادة ال(34) من نظام المرافعات الشرعية أن «الدعوى تقام في المحكمة التي يقع في نطاق اختصاصها محل إقامة المدعى عليه، فإن لم يكن له محل إقامة في المملكة، فيكون الاختصاص الذي يقع في نطاق اختصاصها محل إقامة المدعي، وإذا تعدد المدعى عليهم كان الاختصاص للمحكمة التي يقع في نطاقها محل إقامة الأكثرية، وفي حال التساوي يكون المدعي في الخيار في إقامة الدعوى أمام أي محكمة يقع في نطاق اختصاصها محل إقامة أحدهم». ووفقاً للمادة السابقة، فإن الأصل في سماع الدعوى أن تكون في بلد المدعى عليه إلا أنه يجوز في بعض الحالات سماع الدعوى في غير بلد المدعى عليه وفقاً لما جاء في الفقرة العاشرة من المادة (34) من النظام، وذلك في الحالات التالية: - إذا تنازل المدعى عليه عن حقه صراحة أو ضمناً كأن يجيب على دعوى المدعي بعد سماعها وفق المادة (71) من النظام. - إذا تراضى المدعيان على إقامة دعواهما في بلد آخر وفق المادتين (45، 28). - إذا وجد شرطٌ بين الطرفين سابقٌ للدعوى بأنه إذا حصلت بينهما خصومة فتقام الدعوى في بلد معين. - إذا حصل اعتراض على حجة الاستحكام أثناء نظرها، أو قبل اكتسابها القطعية. فيكون نظرها في بلد العقار من ناظر الحجة. - في المسائل الزوجية الخيار في إقامة الدعوى في بلد الزوجة أو بلد الزوج، وعلى القاضي إذا سمع الدعوى في بلد الزوجة استخلاف قاضٍ من بلد الزوج للإجابة عن دعوى الزوجة فإذا توجهت الدعوى لزم الزوج بالحضور إلى محل إقامتها للسير فيها. فإن امتنع سمعت غيابياً، وإذا لم تتوجه الدعوى ردها القاضي من دون إحضاره. ويحق للمرأة توكيل غيرها - رجلاً كان أو امرأة - فلا تشترط الذكورة في الوكالة. كما أن لها أن تدلي بشهادتها عند طلبها، خصوصاً في الأمور التي لا يطّلع عليها إلا النساء كأمور الحيض والنفاس والبكارة والرضاعة ونحو ذلك، كما يحق لها تولي الولاية على أولادها القصّر إذا تحققت فيها الشروط وانتفت الموانع، كونها أشفق وأرحم بأولادها من غيرها وأدرى بمصالحهم، ويدون في صك الولاية حق توكيل الغير فيما لا تستطيع القيام به بنفسها، وهذه المسألة تؤكد حقوق المرأة القضائية، كما يحق للمرأة رفع دعواها ضد وليها حين عضلها من الزواج ليُلزم وليُّها بتزويجها بالكفء، فإن امتنع فللقاضي حق تزويجها حمايةً لها وتحقيقاً لفطرتها، كما يحق لها أن تطالب زوجها بحسن العشرة والنفقة والسكن والمهر وإثبات الطلاق وفسخ النكاح والخلع والوفاء بشرط العقد والعدل في القسم بين الزوجات وإثبات النسب أو نفيه وزيارة الأولاد والنشوز والعنف الأسري وهذا دليل على حفظ الإسلام حق المرأة في التقاضي. - إثبات الإعسار ويكون من جانب القاضي مثبت الدين الأول إن كان على رأس العمل في المحكمة التي أثبت فيها الدين ما لم يكن مدعي الإعسار سجيناً في بلد آخر، فينظر إعساره في محكمة البلد الذي هو سجين فيه، وجاءت المادة (37) استثناء من المادة (34)، بحيث يكون للمدعي بالنفقة الخيار في إقامة دعواه في المحكمة التي يقع في نطاق اختصاصها إقامة المدعى عليه أو المدعي. - المدعي بالنفقة له الخيار في إقامة دعواه في المحكمة التي يقع في نطاق اختصاصها محل إقامة المدعى عليه أو المدعي، بحسب ما جاء في المادة (37) استثناء من المادة (34)، وتشمل هذه المادة سواء كان المستفيد من النفقة ذكراً أو أنثى، وتسري أحكام هذه المادة على المطالبة بالنفقة أو زيادتها، أما المطالبة بإلغائها أو إنقاصها فتكون وفق ما جاء في المادة (34) على أن يتم تبليغ المدعى عليه في المطالبة بالنفقة، أو زيادتها وفق المادة (21) متى أقيمت الدعوى في بلد المدعي. تسهيلات لمصلحة المرأة لكنها مجهولة! وحول التيسير على المرأة في إقامة الدعوى في القضايا الزوجية في بلدها ذكرت عضو الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان ثريا عابد أن «هذا التيسير سواء من الشريعة الإسلامية أو الأنظمة العدلية يجهله كثير من الزوجات أو حتى أولياء الأمور، ما يتطلب قيام الجهات ذات العلاقة برفع الوعي، وذلك بإصدار دليل إجرائي استرشادي لبيان حقوقها ومن تلجأ إليه عند رفع شكواها. ولعل الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان تضع نواة ذلك من خلال إصداراتها كتيب (اعرف حقوقك)، وكذلك الحال مطلوب من وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة العدل، فتثقيف المرأة بحقوقها القضائية في غاية الأهمية لبيان اهتمام الشريعة السمحة من خلال الحفاظ عليها والتوصية بالرفق بها وتحريم ظلمها، فالمرأة على حد سواء أمام القضاء مع الرجل لا تفريق بينهما إلا وفق ما جاء في الشرع الحنيف والأنظمة الشرعية، فقد تكون مدعية أو مدعى عليها وبائعة ومشترية وراهنة ومرتهنة وناظرة للوقف ووصية وولية وغير ذلك من أحكام ومسائل». وحول قضايا الإعسار، أوضح أحد الذين يعانون من المديونيات المواطن محمد عتيق أن «دعوى الإعسار تمتد لسنوات طويلة، ما يزيد من معاناة الدائن والمدين، ولا أعلم لزوم شرط السجن لمدة ستة أشهر أو أكثر لإثبات إعسار المذكور، فالسجن ضرره أكبر من نفعه على الأطراف الدائن والمدين وأسرة السجين». وأضاف أنه «بدلاً من أن يبقى المدين المعسر يسعى في الأرض للحصول على مال يسدد به المدين، يجعل رهين السجن وخلف القضبان لا حول له ولا قوة. ورغم صعوبة الإجراءات لإثبات الإعسار، فلا شك أن هناك من يستغل صك الإعسار للضرر بالدائن ومع ذلك ينبغي عدم التشدد من أجل حالات شاذة». ورأى أن هناك أمراً آخر يجب أن يدرس ويعالج، وهو مقاضاة الكفيل الغارم الذي عالج أزمة صاحبه وعمل الخير لحل ضائقة غيره، إذ يُنال منه بقيام الدعوى ضده ويبقى المكفول سارحاً كأن الأمر لا يعنيه، فما دام المكفول موجوداً، فلا بد من مقاضاته أولاً وفي حال العجز والإعسار تتم مطالبة الكفيل، فالإجراء المتخذ الآن يشجع على التلاعب والمماطلة، وهو هضم للحقوق بغير وجه حق. النظر في مأزق حجة الاستحكام وحول النظر في قضايا حجج الاستحكام، ذكر المواطن علي بن شايع بن شريف أن هذا الاستثناء في إقامة الدعوى في بلد العقار من جانب ناظر القضية أمر جيد، لكن تبقى مسألة طول الإجراءات، خصوصاً إذا اعترضت الحجة دعوى من أحد الأفراد أو كان الطرف جهة حكومية، فيحتاج الأمر إلى أخذ الإذن من الجهة العليا، وقد يطول النظر في مدة التقاضي إلى سنوات تضر بصاحب الأرض مثلما حصل لي، إذ تطورت المسألة إلى مخاطبات عدة من ناظر القضية للجهات البعيدة وإغفال الجهات في المدينة التي تعرف واقع الأرض... فكانت المعاناة في عدم النظر في وثيقة التملك وشهادة الشهود وقرار هيئة النظر وطبيعة الأرض، ما يفقد صاحب الحق حقه ويجعله يضيع سنواته وراء مطاردة معاملاته في شتى الجهات البعيدة، وحصل لي من المعاناة ما الله به عليم، إذ أمضى والدي عمره في المطالبة بحقه في حجة الاستحكام حتى أثخن في الأرض تعباً وعجزاً وتسلمت أنا زمام الأمور على رغم أنني أسكن في منطقة والأرض في منطقة والمراجعات في منطقة أخرى. وهذا عنوان المشقة الذي يتطلب إعادة النظر في وضع إجراءات حجج الاستحكام، خصوصاً في الأملاك القديمة.