الإنجازات الطموحة الكبيرة ليست وليدة الصدفة، ولكنها نتاج النوايا الصادقة والنظرة النافذة والأيدي القوية الثابتة التي لا تعرف الوهن ولا ترتجف من تعب، وهي أيضاً وليدة النفوس ذات الأحلام الواسعة والطموحات التي لا تعرف الحدود، وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام، فالطموحات الكبيرة تحتاج إلى إرادة وعقول ونفوس لا تكل ولا تمل وتستهوي السهاد والسهر، والإنجازات الكبيرة لها أثرها الكبير في نفس كل فرد من أبناء الوطن، فهي بجانب العرفان توحد المشاعر والطموحات والآمال الكبار، وتعطي دفعة لكل فرد ليجتهد في مجال عمله ويبدع. ولا شك في أن نشدان الإنجازات في مزدحم المنافسة العالمية التي تحشد لها الدول الكبرى الأكثر خبرة كل الوسائل والإمكانات ليس بالأمر السهل اليسير، فكيف الحال إذا كانت الطموحات ليست في تحقيق نتائج متقدمة، إنما الطموح في بلوغ مستوى القمة وإحراز شرف تحقيق حلم عربي كبير، إنه استضافة نهائيات كأس العالم عام 2022، وهذا ما فعلته دولة قطر ليسجل التاريخ الرياضي العالمي المرة الأولى لهذا الحدث الكبير في منطقة الشرق الأوسط. لا شك في أن كفاءة الإعداد وكفاءة الإدارة والتخطيط العلمي السليم في صمت وهدوء، والجهود الخارقة التي بذلها فريق الملف القطري كانت وراء تحقيق قطر شرف تنظيم مونديال 2022، ويبرز هنا مدى أهمية العنصر البشري في استراتيجية الإدارة والتخطيط، فالإدارة عامل وأدوات ومكان، وكل عنصر من هذه العناصر الثلاثة له أهمية في أداء العمل وحسن القيام به، والعنصر الإنساني هو أهم العناصر الثلاثة، فهو العقل المدبر والعنصر الفعال الذي به يدار عنصر الأدوات، وبذا قدم القطريون ملفاً قوياً مقنعاً بأسلوب حرفي حسب لكل خطوة حساباتها الدقيقة، واستطاع أن يتفوق بامتياز على الملف الأميركي بحصوله على 14 صوتاً مقابل 8 أصوات لأميركا بعد خروج أستراليا وكوريا الجنوبية واليابان من حلبة المنافسة. إن قطر بمساحتها الصغيرة (11427 كلم مربع) وبعدد سكانها ال 1.7 مليون نسمة فازت على الدولة العظمى أميركا بسكانها الأكثر من 300 مليون نسمة والتي جاء الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون لدعم ملفها، ولذا أكد أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الذي تلقى تهاني ملوك ورؤساء دول عربية وأجنبية، أن بلاده قادرة على تحقيق الإنجازات على رغم صغرها حيث قال: «إن قطر قادرة على تحقيق الإنجازات على رغم أنها صغيرة». إن استضافة قطر للمونديال درس يجب أن يتعلم منه العرب أن أول الهزيمة هو استصغار النفس، وأول بوادر النصر وأهم أدواته استيطان الشعور بالمكانة والقيمة، فهذا النجاح كان أول ما جسده عدم استصغار قطر نفسها، ثم الإرادة القوية والعزم والإصرار على استضافة المونديال كأول بلد عربي ينال هذا الانتصار، فعمل فريق الملف الذي يترأسه الشيخ محمد بن حمد آل ثاني عملاً مضنياً على مدى العامين المنصرمين، وبذل بذلاً سخياً وقاتل باستماتة، ولم يكن عمل الفريق عملاً أهوج ولا انفعالاً عاطفياً مضللاً ولا البحث عن الأساليب الفاسدة، ولكنهم مع الحماسة والعاطفة الصادقة قاموا من أجل تحقيق الهدف بتطبيق علم الإدارة بالنتائج والأهداف، وأثبتوا أن الإدارة كما قال منظرها تايلور علم وفن، فطبق الفريق القطري الإدارة وفنها، وأثبت أنها حركة وزمن. إذاً لم يأت تحقيق قطر للنصر من فراغ، إنما جاء من خلال بوابة العلم، والفكر النير والإدارة السليمة والتخطيط المستنير لتحقيق الهدف، والثقة في النفس وعدم استصغارها، فحققت قطر هدفها المشروع في استضافة كأس العالم عام 2022، بعد أن أثبتت أن ملفها هو الأجدر، إذ تميز باستخدام التقنيات المستدامة وأنظمة تبريد للملاعب ومناطق التدريب، ليصبح في مقدرة اللاعبين والإداريين والجماهير التمتع ببيئة باردة في الهواء الطلق لا تتجاوز حرارتها 27 درجة مئوية، تدعم ذلك خبرة البلد في تنظيم أحداث رياضية كبرى، فقد نظمت كأس العالم للشباب عام 1995 ودورة الألعاب الآسيوية لعام 2006، وستحتضن كأس آسيا لكرة القدم ودورة الألعاب العربية لعام 2011، إضافة إلى العديد من البطولات العالمية ومنها مايسترو السيدات للكرة الصفراء وإحدى مراحل بطولة العالم للدراجات النارية وغيرها. هذه الخبرات المميزة نقلها رئيس الملف القطري الشيخ محمد إلى أعضاء اللجنة التنفيذية، مشيراً إلى نقاط ثلاث مهمة في ملف بلاده هي: الثقة والاستمرارية والمسؤولية، وأضاف: «أنتم على موعد مع التاريخ، كرة القدم على موعد مع التاريخ، تعالوا نكتب صفحة تاريخية معاً»، وناشد «الفيفا» أن تضع يدها في يد قطر لكتابة تاريخ جديد في ساحة اللعبة الشعبية العالمية (كرة القدم)، لتكون هذه المرة في منطقة من مناطق العالم الثالث المظلوم التي غابت عنها منذ عام 1930، عندما منحت «الفيفا» شرف التنظيم لأميركا اللاتينية للمرة الأولى، وأن من حق العرب اليوم أن يحققوا حلمهم باستضافة المونديال، لتشاهده الجماهير في أنحاء المعمورة بفرح وابتهاج، باعتبار أن هذه الرياضة من أهم وسائل الاتصال بين الشعوب، ويمتد أثرها على المستويين المحلي والدولي، وتنعكس آثارها على العلاقات الدولية، لذا كانت كلمة الشيخة موزة بنت ناصر المسند زوجة أمير دولة قطر على صيغة سؤال معبر، عندما خاطبت أعضاء اللجنة التنفيذية في «الفيفا» قائلة: «متى سيأتي الوقت المناسب لتنظيم كأس العالم في الشرق الأوسط؟ لقد حان الوقت الآن، هذه هي اللحظة». قطر الدولة الغنية بالنفط والغاز باحتياطي نفطي أكثر من 15 بليون برميل، وتخطط لرفع إنتاجها ليبلغ مليون برميل يومياً، وهي صاحبة ثالث احتياطي عالمي من الغاز بعد روسيا وإيران، إذ يبلغ احتياطيها أكثر من 25172 بليون متر مكعب، ولها تأثيرها في سوق الغاز الدولية، هذه الدولة الغنية بالموارد الطبيعية أثبتت أنها ليست غنية بالنفط والغاز فقط، ولكنها أيضاً غنية بعنصرها البشري الذي أكد بفاعلية أن الإدارة حركة وزمن، وأن أي عمل يؤدى لا بد أن يكون الزمن بجانبه، وهذا العنصر البشري استطاع خلال عامين أن يحقق المعجزة، ويؤكد أن الزمن نصف الإدارة، وإذا كان الزمن هو ذلك النهر الذي تسبح فيه الأعمال، فإن الإدارة هي العمل في هذا البحر. ووسط الإدارة وفنونها والزمن والعمل والوقت، سبح فريق قطر ليصل إلى بر الأمان بالظفر باستضافة المونديال 2022، فحقق الهدف المرسوم بدقة وعناية فائقة، وهذه هي الإدارة كحركة وزمن أو عمل ووقت! إن مما دعم مسيرة الملف القطري وأقنع «الفيفا» بجدارته بامتياز، أن ذلك البلد يقوم بتشييد مرافق أساسية تبلغ تكلفتها أكثر من 100 بليون دولار ينتهي العمل بها بحلول عام 2012، وقطر واحدة من أكبر خمسة أنظمة اقتصادية متزايدة النمو في العالم، وخصصت 4 بلايين دولار لتشييد ملاعب بمواصفات فنية عالية، وعلى الجانب الآخر أسست قطر منظومة إعلامية كبرى، قنوات إخبارية ورياضية متميزة ضخت في عروقها عنصراً بشرياً مؤهلاً تأهيلاً عالياً من مختلف الجنسيات، فكانت تلك الماكينة الإعلامية إحدى وسائل دفع عجلة الملف القطري الذي فاز بالتتويج بشرف المونديال، وقبل الفوز ولحظة إعلانه نقلته إمبراطورية قطر الإعلامية حياً على الهواء، وكانت أول من نقل كلمة رئيس الوفد القطري فور التتويج، عندما قال مخاطباً أعضاء اللجنة التنفيذية: «سنصنع التاريخ سوياً». وتلقى الشعب القطري منذ لحظة تسلم أمير البلاد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني كأس العالم 2022 من رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم وإلى جانبه زوجته الشيخة موزة المسند، الخبر بفرح غامر وحب جارف ونظم مسيرات تلقائية ورقصات شعبية بكل اللهجات القطرية والخليجية والعربية، غلفتها مشاعر إنسانية اشترك فيها القطريون والأجانب في ذلك البلد، وخرج معهم العرب، ولكن يظهر أن هزيمة أميركا كانت صفعة هزت كبرياءها، وأفقدت رئيسها أوباما اتزانه حيث قال: «إن اختيار قطر من قبل الاتحاد الدولي لكرة القدم لاستضافة مونديال 2022 كان قراراً سيئاً». يا له من عجب! رئيس أكبر دولة عظمى يترجم خسارة بلاده تنظيم المونديال بهذا الأسلوب، على رغم انه بين قطر وبلاده علاقات وطيدة سياسية واقتصادية وثقافية واستراتيجية بل ورياضية، وكان رد ولي عهد قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني على أوباما بروح رياضية قائلاً: «هي لحظة غضب وزلة لسان... الله يسامحه». * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية. [email protected]