جاءني مرة صديق لم أرَه منذ مدة، جاء وهو في حال سيئة جداً، وبادرني بالقول: «تجتاحني حال سأم مقيتة، إنها تحرمني النوم، لا أكاد أنام غير ساعة». رأيت في عينيه اضطراباً، فأخذته إلى أحد المقاهي الشعبية نحتسي الشاي، فوقعت مسامعنا على صوت رجل يأكل باستمتاع غريب، مع أننا لم نكن نشعر بالجوع لكنه جعلنا نتضور جوعاً. منذ ساعة وهو يثرثر، يثرثر ويقضم الطعام، يقضم الطعام ويثرثر، يلتف حوله حوالى تسعة إلى 12 شخصاً، منهم الجالس، ومنهم الواقف على قدميه، كل يسمع ويشاهد، يضحك ويمازح، المقهى كان مزدحماً بالمرتادين، كنت وصديقي نجلس بالقرب منهم، مكاننا حصلنا عليه مصادفة، حين نهض من على الطاولة التي جلسنا عليها ثلاثة أشخاص لحظة قدومنا وأفسحوا لنا المكان، لولا ذلك لما وجدنا مقعداً فارغاً. كانت طريقة الرجل في تناول الطعام والهضم عجيبة، كان يأكل لقيمات صغيرة ثم يتحدث، يقضم ويتكلم، يتكلم ويقضم، كان يمضغ الطعام بأسلوب شهي، وصديقي مشدوهاً ينظر إليه، يراه يضع اللقمة في يده ويتحدث ثم يلوح بشكل ظريف، سهمنا ونحن نتشوق إلى متى سيصطاد فمه اللقمة من جراء تمايلها أمامه! في النهاية (هووب) التهمها، أخذت الرؤوس تهتز وتبارك هذه التسديدة الماتعة، كاد صديقي أن يصفق، بان على محيا الجميع الدهشة والانبساط، حتى ظن بعضهم أنه يتصنع هذا بتملق وتعمد، لكن شخصاً من مرتادي المقهى مر بجانبنا، يشير إليه ويقول: «هذا طبعه في الأكل والحكي». استثار كل من في المقهى بتلك الحركات والقصص كما استثارنا نحن أيضاً. على رغم تكرار ذلك بالنسبة لهم فهم يستمرون على هذا النحو منذ أن يوطئ الطبق أمامه إلى أن ينتهي ثم يستند إلى الخلف منتشياً بآخر همهماته، بينما من حوله يراقبونه، كأنهم يشاهدون مباراة نهائية في كرة القدم. كنت أرتشف من كوب الشاي الذي أمامي وأنظر إلى صديقي، ابتسم وهو يقول: «خطر ببالي أن أطلب طعاماً». قلت: «اجعل الطلب اثنين». فأشار إلى النادل مباشرةً وسارّه جانباً: «ماذا كان يأكل ذلك الرجل العجيب»؟ أظن أن المكان راق لصديقي، صرت أراه يخلع لباس السأم من عليه، وأثناء العودة كان يقول: «كدت أطير فرحاً وكأن خلايا جسمي ترقص في ساحة رقص». اتصل بي اليوم وقال: «لنذهب إلى ذلك المقهى». قلت: «أرى أن الحضارة فشلت أن تجلب لك السعادة». * كاتب سعودي.