التطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، ما بعد استخدام النظام السوري الأسلحة الكيماوية ضد المدنين العزل، وتلكؤ الإدارة الأميركية في الوفاء بما وعدت به من رد قوي وحاسم على النظام السوري (في حال تجاوزه الخطوط الحمر التي وضعها له الرئيس باراك أوباما ومنها استخدامه السلاح الكيماوي المحرم دولياً)... أدت إلى تساؤلات كبيرة ومشروعة لدى النخب السياسية في المنطقة حيال السياسات الأميركية المستقبلية في منطقتهم، ومدى تعويل حلفاء الولاياتالمتحدة الأميركية عليها، خصوصاً بعد العودة القوية لروسيا كلاعب رئيسي في سياسات المنطقة. إلا أن المتابع للسياسة الأميركية وأدبياتها (من خلال ندواتها وحواراتها السياسية وإصدارات بعض مفكريها، ممثلة في بعض جامعاتها ومراكز التفكير، حول الدور الأميركي المستقبلي في الشرق الأوسط بعد تجربة غزو العراق)، يدرك مدى اتساع دائرة تلك النخب الأميركية المطالبة بتقليص الدور العسكري المباشر في الشرق الأوسط، يوماً بعد يوم (باستثناء المهام العسكرية المحدودة لمكافحة الإرهاب) والركون إلى سياسة إطفاء الحرائق بدلاً من إشعالها، من خلال توسيع دائرة الحلول السياسية، كما يدرك التأثير الواضح لتلك النخب على سياسات الرئيس باراك اوباما. وعكس خطاب أوباما في 24 أيلول (سبتمبر) الماضي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تبني الإدارة الأميركية الواضح لهذا الدور، سواءً في الملف السوري أم في الملف النووي الإيراني. وقد يكون هذا التحول في السياسة الأميركية أمراً مستغرباً لدى البعض في منطقتنا، إذا ما قورن بالسياسة الأميركية في عهد الرئيس بوش الابن، إلا أن هذا الاستغراب سرعان ما يتلاشى إذا علمنا أن الرئيس أوباما ليس الرئيس بوش الابن. فقد شخص أستاذ القانون في جامعة هارفرد رئيس فريق برنامج التفاوض في كلية القانون» Robert Manookin « في كتابة «التفاوض مع الشيطان: متى تُفاوض ومتى تُحارب»؟ Bargaining with the Devil when to Negotiate when to Fight"» الصادر عام 2010 شخصية كل من الرئيس بوش الإبن والرئيس باراك أوباما، وسِماتِهما القيادية وموقفهما من التفاوض مع الدول المارقة بحسب تعبيره، وهو يوضح أن بوش ليس بالرئيس المثقف الذي يعتمد على مستشاريه أوعلى رأي النخب المثقفة في اتخاذ قراراته السياسية، بل يعتمد على غرائزه القيادية عند اتخاذه القرارات، وهو لا يعتمد على حسابات المكاسب والخسائر، بل يعتمد على ما يقتنع ويدين به، ونادراً ما يخالف الفريق العامل معه قراراته عند الحديث عن المكاسب والخسائر، بل يُذعِنون لرأيه. وخير دليل على ذلك القرار الذي اتخذه لغزو العراق. كما أن الإدارة في عهد بوش الابن لم تبد أي إشارة إلى رغبتها في التفاوض مع الدول المارقة، بل كان خطابها يبين عكس ذلك تماماً. وهذا ما أكّده نائب الرئيس ديك تشيني بعد أحداث 11 سبتمبر بفترة قصيرة حين قال أن لديه توجيهاً من الرئيس بوش «من أننا لن نفاوض أياً من الطغاة في العالم فنحن لا نفاوض الشيطان بل ندحره». ويبين الكاتب أن رفض بوش التفاوض مع أنظمة بعينها، يجعله يعتمد على الحدس العاطفي لديه وليس على الخيارات البراغماتية التي تصب في مصلحة الشعب الأميركي، فقد كان خطاب بوش أخلاقياً أكثر مما يجب وغالباً ما كان حاداً يستخدم فيه عبارات كالشياطين، والخير والشر، والدول المارقه. ويسترسل الكاتب في وصفه شخصية الرئيس بوش القيادية وتأثيرها في اتخاذ القرارات، فهو مثلاً لم يفاوض صدام حسين بل أمر بغزو العراق، كما رفض التفاوض مباشرة مع إيران وكوريا الشمالية حول برنامجهما النووي. ويؤكد الكاتب أن قرارات بوش ربما اعتمدت كثيراً على حدسه الأخلاقي أكثر من التقييم الحذر والبراغماتي للخيارات المتاحة. ويرى الكاتب أن خطاب أوباما واستراتيجيته يتوافقان مع منهجه (اي منهج الكاتب) في خيار التفاوض مع الدول، وهو يؤيد أوباما في خطاباته البليغة والتي لم يُوجه فيها الإهانة الى أي من رؤساء الأنظمة الذين يختلف معهم، بمعنى آخر فإن أوباما لا يملك الرغبة فقط في التفاوض مع الشيطان بل أن خطابه واستراتيجيته السياسية يظهران تفضيله هذا الخيار. فهل نرى في الآتي من الأيام دخول الولاياتالمتحدة في سلسلة من المفاوضات مع دول تجاوزت كل الخطوط الحمر، الأوبامية منها والإنسانية، لتؤكد رؤية الكاتب بأن التفاوض مع الشيطان أصبح خياراً استراتيجياً أميركياً؟ * كاتب سعودي.