قرر أخيراً القائمون على مركز بومبيدو (باريس) تكريم الفنان الفرنسي الكبير أرمان (1928-2005). ونقول «أخيراً» لأن علاقات هذا الفنان بالمؤسسة المذكورة بقيت معدومة حتى وفاته. وفي حواراته مع النقاد، عبّر أرمان مراراً عن انزعاجه من هذا الإهمال الذي يصعب تبريره. صحيحٌ أن أرمان حقق أعمالاً كثيرة بدوافع تجارية، كما لا يخفى على أحد أنه كان يعيش حياةً مترفة. وفي حال أضفنا شغفه في تجميع القطع الفنية وحياته الاجتماعية والعاطفية الصاخبة لتبيّن لنا بسرعة على ماذا لامه البعض. لكن جميع هذه الأمور لا تتعارض أو تقلّل من موهبته الفنية الكبيرة التي تتجلّى بإنجازاتٍ وابتكاراتٍ ثورية تجعل منه أحد أبرز وجوه الفن خلال النصف الثاني من القرن الماضي. عضو مؤسّس للواقعية الجديدة التي اقترحت منذ عام 1959 «مقاربات إدراكية جديدة للواقع»، طوّر أرمان منذ بداية مساره عملاً يرتبط مباشرةً بحقبته مستخدماً كمادّةٍ فنية القطع والأشياء التي يصنّعها مجتمعنا الاستهلاكي. لكن بخلاف التكعيبيين والدادائيين والسورّياليين الذي استمدّوا من الأشياء المستثمَرة تعاليم جمالية أو رمزية أو شعرية، منح أرمان هذه الأشياء موقعاً داخل حالة تكرارٍ وتنوّعٍ تحوّل إدراكنا الحسّي لها وتمدّها بمعانٍ جديدة تنكشف لنا غالباً بطريقةٍ فكاهية. بين 1956 و1962، وضع أسّس لغته الفنية (التكديس، التحطيم أو الحرق في حالة غضب، وسلّة المهملات) التي شكّلت كمّاً من الأساليب والمسأليات التي استثمرها وعاد إليها في شكلٍ ثابت طوال مساره بهدف التعمّق بها وتطويرها. وهذا ما يفسّر طريقة ترتيب معرضه الاستعادي الحالي في مركز بومبيدو التي تتبع توزيعاً موضوعياً على سبع صالات للأعمال المعروضة، يسمح برؤية وفهم ذهاب أرمان وإيابه داخل فّنه وباستنتاج الصدى المعاصر البديهي لعمله الفريد. في الصالة الأولى، نشاهد الأعمال التي أنجزها الفنان قبل أن يلمع نجمه، فنلاحظ تأثّره بجاكسون بولوك وكورت شفيترز، على رغم الاختلاف الشاسع بين هذين الفنانين. فلوحات «هيئة أشياء» تذكّرنا بتشكيلات التعبيرية المجرّدة التي ارتكزت على تقنية «all over» (أو نشر الألوان على كامل سطح اللوحة). لكن في نهاية الخمسينات، طرأ تحوّلٌ مركزي في عمله ناتج من اختلاف نظرته للعلب التي كانت تصلح لتكديس القطع الصغيرة التي كان يلصقها على سطح لوحاته، كما يظهر ذلك في الصالة الثانية من المعرض التي تتضمّن قطعاً من سلسلتَي «المليء» و«سلّة المهملات». ومع أنه تشارك مع طلائع الثلاثينات في هذا الميل وفي حسِّه الفكاهي الذي تعكسه بقوة عناوين أعماله، لكنه ذهب في تكديس الأشياء إلى حدود العبث وسعى خلف الآثار الحاضرة سلفاً لحضارتنا الصناعية من أجل خلق حالة قلقٍ سليم من إنتاجها المفرَط ومن نفاياتها. واللافت في هذه الأعمال هو الحجم الهائل للقطع الصناعية المعلّبة داخلها والطبيعة الهشّة لبعض موادها التي دفعت الفنان طوال فترة الستينات إلى ترتيب ما كان يكدّسه في محترفَيه كموادٍ فنية، قبل أن يكتشف في السبعينات مادّة البلاستيك المكثّفة التي ستسمح له بتغليف جميع أنواع النفايات، بما فيها تلك السريعة الزوال. في الصالة الرابعة، نتعرّف، ضمن حركةٍ واحدة، الى تقنيّتين متضاربتين ومتكاملتين استخدمهما أرمان: تقنية القطْع والتحليل وتقنية التحطيم أو الحرق الغاضبة. وفي الحالتين، يحوّل الفنان الشيء المستخدم (بيانو، متّكأ، سياّرة...) إلى حد يظهر فيه بهيئةٍ جديدة كلّياً. وتتميز ممارسته لهاتين التقنيّتين بطابع انتهاكي يستهدف وظيفة الشيء والحقبة التي ينتمي أو يرمز إليها. وفي الصالة الخامسة، يتبيّن لنا هاجسه في حفظ أطول وقتٍ ممكن بقايا تقطيعه وتحطيمه للأشياء بلجوئه إلى موادٍ حافظة مختلفة، كمادّة البلاستيك المكثّفة التي سبق ذكرها أو مادّة البرونز أو الإسمنت. ولأنه أنجز أيضاً منحوتات بطلبٍ من مصانع رينو، نشاهد في الصالة السادسة عدداً من هذه الأعمال التي تقترب بمعالجتها من فن «الديزاين». أما الصالة السابعة والأخيرة فرُصدت لعودة أرمان إلى فن الرسم، بعد استقراره في نيويورك عام 1961؛ عودةٌ اعتبرها بنفسه ولادةٍ جديدة وأنجز على أثرها لوحات شكّلها من أصابع الألوان ومادّتها الخام، من دون أن يتخلّى عن منهجه التحليلي للأشياء القائم على التكديس والتدمير والتقطيع.