في وقت انشغال كتّاب عرب وغربيين بتأمُّل ما سُمّي «استثناءً مغربياً» مكّن المملكة العريقة من تجاوز الثورات العربية بلا خسائر، انصرف المفكر المغربي حسن أوريد إلى وضع النسخة المغربية من الإسلام السياسي في الميزان، عبر كتاب نشره بداية بالفرنسية، قبل أن يترجمه إلى العربية، وقد وثّق فيه تضاريس الصعود والهبوط ل «الأسلمة» في الدولة العميقة (المخزن)، التي كان الرجل جزءاً منها، والياً وناطقاً باسم القصر، وقبل ذلك وبعده كان شاهداً على المرحلة ومراقباً. لكن أوريد في حديثه إلى «الحياة» عن تلك التجربة يختلف في خلاصاته عما كان شائعاً، إذ، على رغم إقراره بتطور إيجابي يشهده توظيف الإسلام في السلطة، يرى أن «حزب العدالة والتنمية» الحاكم في بلاده لا يزال يفتقر إلى «أخلاق الدولة»، وإن سجّل في مرحلته الأخيرة سلوكاً براغماتياً محموداً، يرجح أنه السرّ في العبور بتجربته، وإن رأت بعض جماهيره أن تلك البراغماتية المضادة لمبادئه وقيمه أحياناً ستفضي إلى تناقض يجرح صدقية شعاراته المثالية، التي طالما تغنى بها وردد صداها الأنصار. كما أن تجربة حكم الإسلاميين في نظر الباحث المغربي لم تنضج بعد حتى يقال عنها استثناء، مشبهاً إياها ب «الحامل» الموشِكة على الوضع، فهل تُجهض أم تلد على سجيتها طبيعياً؟ وعما إذا كان تهوينه من الاستثناء المغربي تشاؤماً، يقول أوريد: «لست راصداً للحركة بطريقة باردة وجامدة، ولا باحثاً أجنبياً يدرس جسماً غريباً. هذا الجسم هو جسمي في نهاية المطاف والنتيجة التي انتهى إليها إمكان نجاح التجربة المغربية كما إمكان الإخفاق، لا يمكن الجزم بهذا ولا بذاك، فتصويري للوضعية المغربية كما لو أنها امرأة حامل وينبغي للمثقفين والنخب أن يساعدوا هذا الجسم على الوضع من دون إجهاض. طبعاً، هناك دينامية إيجابية جداً في المجتمع، لكن دورنا كمثقفين إلى جانب النخب السياسية هو أن نسمح لهذا الوليد أن يستهل». ومن دون إصدار حكم مسبق، يقر رجل السلطة القديم بأن نجاح التجربة يهم شرائح واسعة، حتى من بعض المناوئين التقليديين للإسلاميين، اعتقاداً بأن «الفرصة مواتية للمزاوجة بين معانقة قيم كونية عبر إصلاح كل الشعارات التي خملت، ولكن في الوقت نفسه يتم ذلك من دون المغامرة، فالأخيرة مكلفة ومؤلمة جداً بغضّ النظر عن الجانب الأكاديمي، كما أن معانقة مد قوي لدولة القانون بقيم كونية تسودها الشفافية لا يتناطح في أهميته عنزان، ولكن حتى ذلك التطور ينبغي أن يتم بلا مغامرة». ومع أن هذا الضرب من العقلانية متفق عليه بين شرائح عدة، إلا أن حيرة بعض الباحثين تتجه إلى إسناد رئيس الحزب الحاكم الفضل إلى رجاله وحكومته كل انفراج، فيما يحمل أوزار أي تعطيل أو خلل المؤسسة الملكية وما يسميه قوى التحكم، خصوصاً عندما قال «إن الملك هو الحاكم»، ما قُرئ على أنه تهرب من تحمل المسؤولية. فيما يقر أوريد بأن نجاحات الحزب التي لا تنكر في جوانب، لا تنفي تحولات صادمة لا تنفك تند من قيادته السياسية، وهو ما فسره ب «الفقر لأخلاق الدولة». وقال: «ما يصدر من المسؤول الأول لحزب العدالة والتنمية لا يطابق مفهوم الدولة، فالدولة لديها أخلاقيات، والثابت أن الحركات الإسلامية عموماً ليس لها تمرس بالدولة أو تجربة أو ليست لها معرفة تقنية تقديرية، ولكن كذلك ليست لديها أخلاقيات الدولة، وهذا ليس عيب المغاربة منهم وحدهم، فليس هناك تنظيم إسلامي له أخلاقيات الدولة أو تمرس بالدولة، على أساس أن الحركات الإسلامية اشتغلت أولاً على المجتمع منذ تجربة «الإخوان المسلمين»، وثانياً لأنها وضعت في حسبانها تجاوز أخلاق الدولة... إلى آخره، فلذلك حدث الاختلال، وربما من ناحية أخلاقيات الدولة كان من المفترض في تصوري إما أن نقول ما قال ابن كيران في أوساط ضيقة، أو نقدم استقالتنا، ولذلك أنا أتفق بأن هناك أشياء صادمة في الحملة الانتخابية». وبين الأمثلة ما حدث في الحملة الانتخابية الماضية، حين انتقد بن كيران الدولة وهو رئيس حكومتها «هذا شيء غير مقبول»، يقول أوريد، لكن لبّ الفكرة أنه لا بد من الحفاظ على «تقنية شيء اسمه الدولة، هذا الكيان أساسي والذي تبين في أعقاب الربيع العربي أن الغائب الأكبر في المنطقة هو الدولة، هناك أنظمة قوية أكيد، ولكن ليس معناه أن هناك دولاً قوية، الدولة ليست فقط تجهيزات الزجر أو الاستخبارات، الدولة هي بالأساس عقد اجتماعي ومؤسسات، فالغائب الأكبر في خطاب الحركات الإسلامية هو مفهوم الدولة». وكمن يرهن بقاء الحزب واستمراره بالقدر الذي ينجح في اكتساب تلك الثقافة، يعتقد أوريد أنه «لا يمكن الجزم بالمآلات أو تعاطي حزب العدالة والتنمية مع الدولة وأخلاقياتها وسلوكياتها، لكن من خلال التجربة التي انتهت وانسلخت يمكن القول إن غياب ثقافة الدولة لدى الحزب لا يزال طاغياً». وإذ يرجح باحثون أن الوفاق بين الملكية وإسلاميي المغرب لن يطول، بالنظر إلى أن مرجعية حزب العدالة والتنمية الإسلامية ربما تزاحم في بعض تطبيقاتها اختصاص مؤسسة «إمارة المؤمنين». يلفت الباحث المغربي حسن أوريد في كتابه «الإسلام السياسي في الميزان - حالة المغرب»، إلى أن توظيف الدين سياسياً سبقت إليه الدولة العميقة (مخزن) التيارات الإسلامية، في سياق مواجهة الملكيات العربية مد اليسار والقوميين العرب في عهد الرئيس عبدالناصر قبل بعث الحركات الإسلامية بعد «الثورة الخمينية»، ووثق أن النتائج دائماً تسجل آثاراً إيجابية في المآل القريب، وأخرى مضادة في البعيد. أما بالنسبة إلى ما يتردد أن يفضي إليه هذا التنافس بين الحزب والمؤسسة من صدام، فقد تحاشى أوريد الجزم بأي مصير، ذلك أن «حزب العدالة والتنمية سواء من خلال خطابه في المعارضة أو في ممارسته لا يجادل في إمارة المؤمنين، ولا يبدو أنه يتذرع بشيء اسمه المرجعية الإسلامية أو الدين إلى آخره. نعم، في بداياته كان له خطاب أخلاقي، وكانت حمولته دينية أكثر منها سياسية في أول تجربة برلمانية للحزب في البرلمان 1997، لكن ذلك لم يأت بأية قيمة مضافة، إذ تركزت ملاحظاته آنذاك على القروض الربوية، وتوقف اجتماعات البرلمان لأداء الصلاة وأشياء من هذا القبيل، ما أثار حفيظة كثير من الملاحظين على أساس أنه كان من المفترض لهذا الحزب أن يساهم في قضايا أخرى». تلك المرحلة في نظر الراصد المغربي ولت، فالحزب غدا يمارس السياسة ككل الأحزاب «من خلال تحالفات، انطلاقاً من مصلحته، وبات يمارس السياسة كما تمارس، وقد يلجأ إلى كل أساليبها، وهذا ما أشرت إليه (في الكتاب) من خلال أشياء معروفة ونشرت في الصحافة من دون أن أشير إلى أشياء أعرفها، فبما أن هذا الحزب يمارس السياسة بما فيها مدلول «الغاية تبرر الوسيلة» فليدع الدين جانباً. أطروحة الكتاب هي أن أي تنظيم مهما بلغت أهميته، وحتى الدولة حينما توظف الدين تقع في تناقضات، لذلك ينبغي أن نحيد الدين وأن نضعه جانباً»، وهذا ما يقول إن الحزب اقتنع به أخيراً، فغدا هناك نوع من التوافق حتى داخل العدالة والتنمية في ما يخص الفصل بين الدين والسياسة أن ليس معناه الفصل بين الدين والدولة، فالدولة لديها مسؤولية في ما يخص تدبير الشأن الديني، رئيس الدولة هو الملك، وكذلك أمير المؤمنين، ومصطلح الحزب الإسلامي المغربي الحاكم للتعبير عن هذا «التمايز» بين السياسي والديني، تحاشياً لحمولة المصطلح المغضوب عليه جماهيرياً «العلمانية»، وتفسيرها فصل الدين عن الدولة. أوريد يتجه في قراءته إلى أن أثر التحول الذي تشهده المنطقة «المغاربية»، سيتجاوز الوصول الهش إلى السلطة من جانب أحزاب ذات مرجعية إسلامية، ليتجه إلى أفق أبعد، ربما أعاد تقسيم الخرائط على النحو الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، لافتاً إلى أن المغرب العربي (يستفزه هذا المصطلح) دائماً تأثّر بالمشرق العربي، إلا أنه يطمح أكثر مما هو يحلل، إلى أن يفضي ذلك إلى انهيار ما سماه «جدار العبث»، مثلما حدث لنظيره في برلين، وجدار الخوف الأشد قياماً قبل أن يهوي في وجدان مواطني المنطقة والإقليم. وهو بذلك يشير إلى حال التنافر والفصل القسري للحدود بين شعوب المنطقة، خصوصاً بين الجزائر والمغرب، مذكّراً بمفارقة تدفعه للجزم بحتمية ذلك الانهيار، هي أن بعض المغاربة يجمعهم مع بعض الجزائريين مثلاً أكثر مما يجمعهم مع بعض مواطنيهم. والعكس أيضاً صحيح. وهو بذلك لا يحيل فقط إلى الرابطة العرقية في مثل الحال الأمازيغية التي يهتم بها كثيراً، ولكن أيضاً إلى الهوية المشتركة والعلاقات والجوار والنضال التاريخي. المثل الإسلامية ليست إلا «مطية»! إن البرغماتية فعالة لبلوغ السلطة، ولكنها ليست وصفة للحفاظ على الصدقية، التي تتعرض عاجلاً أم آجلاً، إلى التآكل، وتهدد مرجعية أية حركة. لقد دفع حزب الاتحاد الاشتراكي ثمناً غالياً بسبب ذلك، ويبدو أن الإسلاميين المغاربة الذين هم في الحكومة، التأموا مع قواعد المنظومة التي يمجون من قبل (...) إن النتائج الإيجابية التي حققها الحزب لا تفند الأطروحة في مستهل الكتاب. يظل حزب العدالة والتنمية آلة حزبية فريدة، استفادت من حال الوهن في الأحزاب الأخرى. ليست المثل الإسلامية إلا مطية. لقد أخذت المرجعية إلى الإسلام تتوارى، ويعمد الحزب، وفقاً لما قال الفيلسوف غوشي إلى خروج الدين عن الساحة العامة (...) فقد كان الحزب في بدايته قريباً من تنظيم الإخوان المسلمين، ولكنه اليوم أصبح أكثر قرباً من نظيره التركي. (ص104) لم يكن للحكومة الملتحية بتعبير سياسي مغربي سوى الدال من دون مدلول. سحب الحزب مشروع الإصلاح السمعي البصري الذي وعد به، وتعامل مع الاختلاط في الشواطئ واستعمال الكحول، ولعب القمار، وبرر بنكيران ذلك بضرورة تشجيع السياحة. ص101. * مقتطفات من كتاب «الإسلام السياسي في الميزان - حالة المغرب» دار توستا 2016.