يحرص «متشددون» على تصدر المحافل الثقافية في السعودية سنوياً، وخصوصاً معرض الرياض الدولي للكتاب، عبر قصص «مثيرة» يفتعلونها اعتراضاَ على كتب، أو على اختلاط، أو على نشاط ما. هذا العام، يترقب المهتمون في المعرض الذي افتتج أمس (الأربعاء)، مشهداً جديداً يتصدره «محتسبون» اعتادوا التلويح ب«لواء الفضيلة» أمام زوار المعرض ومنظميه، باعتبارهم «أوصياء على المجتمع»، لتبرير مصادرة كتاب، أو الترصد إلى الزائرات بدعوى «الحفاظ على عدم الاختلاط»، ليصير وجودهم مشهداً متكرراً في نسخ المعرض الذي أصبح من وجهة نظر أحد الكتاب «تظاهرة للثقافة والاحتساب معاً»، وتحولت رسالته إلى «التعايش مع المحتسبين». تكرر «غزوات المحتسبين» للمحفل الثقافي الأهم في السعودية، وأصبحت حدثاً أساسياً ينتظره المتابعون سنوياً، فلا يخلو من إثارة تشتعل بها مواقع التواصل الاجتماعي، ودافعاً إلى زيارة المعرض في حد ذاته بالنسبة إلى كثيرين اعتبروا الدورة التي لا يرافقها ضجيج المحتسبين «لا تدعو إلى الاهتمام». أبرز «غزوات المحتسبين» كانت عقب افتتاح المعرض في العام 2011، حين اقتحمه 30 منهم وأشاعوا الفوضى فيه، بعدما تهجموا على وزير الثقافة والإعلام الأسبق عبد العزيز خوجة أثناء زيارته، واستوقفوه أربع مرات، تعرضوا إليه بألفاظ «نابية»، وصاح أحدهم قائلاً له: «ما يعرض بوسائل الإعلام في ذمتك»، مدعياً نشر كتب تحمل «أفكاراً كفرية»، وبادره آخر بالقول: «انت لا تستحي»، واكتفى الوزير بالقول: «شكراً، جزاك الله خيراً». وتطورت المشاداة آنذاك إلى اشتباك بين «المتشددين» ورجال الأمن الذين أخرجوهم من المعرض، فيما قبض على ثلاثة منهم، ما أدى إلى تجمع «المتشددين» خارج المعرض، مهددين بأن ما سيحدث في اليوم التالي «سيكون أعظم». وشهدت النسخة نفسها إجبار «محتسبون» الشاعرة الإيرانية فاطمة محمدي على ارتداء العباءة الخليجية في المعرض، على رغم ارتدائها حجاباً، لكن ظهور خصلات من شعرها أغضبهم، وطالبوها بتغطية وجهها كاملاً. ووجه الوزير خوجه يومها رسالة إلى «المتشددين» عبر تغريدة في حسابه على «تويتر» كتب فيها: «كل من له ملاحظة على معرض الكتاب؛ فليقدم شكواه إلى الجهات الرسمية المختصة الموجودة فيه، أما إثارة الفوضى ومضايقة الزوار والناشرين فمرفوض تماماً». وفي النسخة التالية للمعرض أطلق «محتسبون» دعوات على مواقع التواصل لمقاطعته، بحجة «عرض كتب تشجع على تحرير المرأة والاختلاط»، ووصفها أمير منطقة مكةالمكرمة خالد الفيصل بأنها «دعوة من حاقدين وحاسدين»، مشدداً على أنه «لا يمكن لأي إنسان مثقف أو من يريد الخير لوطنه أن يقاطع هذا المعرض أو يدعو إلى مقاطعته». وإثر دعوات «محتسبين» لمقاطعة محاضرة الكاتبة بدرية البشر في المعرض، دعتهم الأخيرة في مقال نشرته «الحياة» إلى مقاطعته، مؤكدة أن تلك الدعوات أعطت للمعرض شهرة أكبر من أي دعاية تجارية، وكتبت: «أرجوكم قاطعوه أنتم. نريده معرضاً لا يدلفه إلا المهتمون بالكتب والقراء المشترون، بدلاً من أن يصبح مهرجاناً للنميمة والمخاصمات». وتكررت دعوات المقاطعة في نسخة العام 2013، ولكن من خلال نساء وزعن حلوى مغلفة بمطويات ورقية صغيرة تحث على «مقاطعة المعرض ونصرة الدين ورفضاً لاتفاقات دولية في شأن المرأة»، تضمنت عناوين مثل «كلنا محتسب»، و«الاحتساب في معرض الكتاب»، ما أثار استغراب الزوار، وصفته إحداهن ب«تدخل سافر من محتسبات وفي مكان مثل معرض الكتاب يدعو إلى الثقافة والحوار، وليس إلى التطرف والاحتساب»، أوقفت الشرطة يومها عدداً منهن. وتكررت مضايقات «المحتسبين» لزوار المعرض، ففي نسخة العام 2014، اقتحم عدداً منهم الإيوان الثقافي في أحد الفنادق الكبرى، عندما رأوا كاتبة دنمراكية تجلس في القسم المخصص للنساء، وطلبوا منها تغطية وجهها، لتنسحب الكاتبة التي كانت في زيارة قصيرة إلى السعودية. وأدى إرهاب «أسود الحسبة» كما يحبون أن يطلقوا على أنفسهم، لدور النشر إلى غياب بعضهم عن المعرض، مثل «دار الغاوون» التي احتج «محتسبون» على اسمها، على رغم اشتهارها بطباعة دواوين شعربة لشعراء عرب وسعوديين. وخلال الدورة نفسها؛ هاجم «محتسبون» إحدى دور النشر العربية وطالبوا بمصادرة كتب أدعوا احتوائها «تجاوزات دينية»، ليشتبكوا مع رجال الأمن الذين أخرجوهم بالقوة، وأكد صاحب الدار آنذاك أن تلك الكتب عبارة عن «روايات وسير ذاتية مترجمة، وليس لها علاقة بالدين، وتتحدث عن التاريخ والأساطير». محتسبون يتضامنون مع داعش تعرض الأستاذ في جامعة الملك سعود الدكتور معجب الزهراني إلى «عنف لفظي» من جانب «محتسبين» خلال وجوده في المعرض العام 2015، بعدما أبدى أسفه خلال إحدى محاضراته على تدمير تنظيم «داعش» للآثار العراقية، ليعترض «محتسب» قائلاً: «إن تدمير هذه الآثار واجب على كل مسلم»، مستدلاً بتحطيم النبي الأصنام عند دخوله مكةالمكرمة، وحاول الزهراني توضيح الفرق بين الأصنام والآثار، وهو ما رفضه «المحتسب» وآخرون، ليسود القاعة الهرج. ودفع ذلك الحادث الفنانة التشكيلية نجلاء السليم إلى رفض المشاركة في الندوة، وغادرت القاعة تفادياً لتدخل «محتسبين» دخلوا في مناصحة مع المثقفين والمثقفات، ومنعوا مشاركة النساء في الفاعليات الثقافية بخلاف الأعوام الماضية. ولم تخل النسخة الأخيرة للمعرض من «غزوات»، بعدما قاطع «محتسبون» عرض أفلام سعودية صاحبها موسيقى تصويرية على مسرح المعرض، بالتكبير والصراخ والتذكير بالآخرة وعذاب النار، ما اضطر القائمون على العرض إلى قطع الصوت عن غالبية المشاهد، وشاهدها الحضور من دون صوت، وقام «محتسب» بعد قطع الصوت برفع صوته قائلاً: «إن هذا تطبيع للسينما وغزو للعقيدة»، ما دفع الحضور لمطالبته بالخروج. وندد «محتسبون » بعرض فيلم «سكراب» للفنانة سناء بكر يونس، بعدما أغضبهم وجود مشهد قيادة المرأة السيارة خلاله، وغادروا المسرح إثرها. وشهدت الأعوام الأخيرة مطالبات من مثقفين وعامة بالحد من سلطة «المحتسبين» داخل معرض الكتاب، خصوصاً المتطوعين منهم، وأكد خلالها رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السابق الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ، أن «المجتهدين داخل المعرض بالحسبة لا يعود أمرهم للهيئة بل لإدارة المعرض، وأن مسؤولية الهيئة تنحصر في أفرادها فقط»، موضحاً أن مصادرة الكتب تعود أيضاً إلى إدارة المعرض. جمهور «معرض جدة» يطرد «محتسبين» وانتقلت عدوى «غزوات المحتسبين» إلى معرض جدة الدولي للكتاب، بعدما اعترضوا على مشاركة الشاعرة السعودية أشجان هندي في أمسية أدبية فيها رجال، وصاح أحدهم محدثاً الحضور: «أيرضيكم هذا؟» ليفاجئ بالرد: «نعم يرضينا»، وطردوا إثرها «المحتسب»، ونشط بعدها «وسم» على موقع «توتير» بعنوان: «نعم يرضينا». وانتقلت معارك «الحسبة» إلى مواقع التواصل من خلال وسم: «هل الاحتساب جريمة»، بعد تداول أنباء عن توقيف بعض «رموز الحسبة»، وطالب مغردون ب«الحد من المتطفلين على الحسبة»، لوجود هيئة رسمية لها، وغرد تركي الشهراني: «الاحتساب جريمة إذا ركز المحتسب على النقاب وترك الفساد». وأيدت رنيم تجريم الاحتساب كونه «يتدخل في خصوصيات البشر المكفولة في القانون»، ووافقها وليد الذي رآه «يخضع المجتمع لعين الرقيب فيزيد الفرقة فيه». وعلى النقيض من ذلك، تمسك آخرون بوجود «المحتسبين»، مؤكدين أنهم «جزءاً من الشريعة ومصلحون للمجتمع»، رافضين تجريمه متذرعين بأنه «مخصص لفئة معينة من الناس». وكتب عبد العزيز السهلي «الخيرية في هذه الأمة تعود إلى الاحتساب».