لم يعد معرض الرياض الدولي للكتاب، الذي اختتمت فعالياته أمس، عرساً ثقافياً سعودياً فحسب، إنما تخطى ذلك إلى أن يكون عربياً بامتياز، إذ أضحى ربيعاً للثقافة وللكتاب وللناشرين، خصوصاً بعد ما شهده الوطن العربي من أحداث وأزمات سياسية، عصفت بالحياة الثقافية لانعدام الأمن والاستقرار وضعف القوة الشرائية على الكتب. وأكد مسؤولون في دور نشر عدة أن ما أفرزته الثورات العربية شكل «انفراجة في عالم الكتاب، فبدأ القارئ العربي يبحث عن كتب الثورات والفصائل التي تبنت هذه الثورات، إلا أنها عصفت بالقوة الشرائية ببعض الدول المتأزم فيها الوضع السياسي بسبب عدم الاستقرار». ولفتوا إلى أن الدول العربية تمر بتدهور اجتماعي «ما أضعف القدرة على شراء الكتب، إضافة إلى عدم الاستقرار الذي تمر به العديد من الدول العربية كان له تأثيره السلبي على معارض الكتب في العديد من الدول العربية». وأجمع غالبية الناشرين أن معرض الرياض، «أفضل المعارض في الدول العربية». وأشاروا إلى أن مراكز الثقل الثقافي في الوطن العربي المتمثلة في العراق ومصر وسوريا حالياً، غابت بسبب الأوضاع السياسية الداخلية، «فهذه الدول لم تعد توجد على خريطة الثقافة العربية كما كانت». واكتظ المعرض في اليومين الأخيرين بعشرات الآلاف من الزوار، الذين حرصوا على الإفادة من المعرض، حتى آخر لحظاته، إذ قدموا من عدد من المدن. شهد المعرض توقيع الكتب الجديدة، وتنظيم ورش متنوعة لاقت إقبالاً كبيراً من الزوار. عشرة أيام مثلت عرساً ثقافياً فعلياً، زوار يعدون بمئات الآلاف، أنفقوا ملايين الريالات على كتبهم المفضلة. إلى ذلك تحول شعار «الكتاب... تعايش»، الذي حملته الدورة الجديدة من معرض الرياض الدولي للكتاب، إلى مناسبة للتأسي مرة وللفكاهة السوداء مرة أخرى، فالمظاهر التي عبّر عنها «المحتسبون» في الندوات التي ضمّها برنامج المعرض الثقافي، لم تنم عن أية رغبة في التعايش، في إصرار عجيب على عدم تفهّم وجهة النظر الأخرى، والعمل على دحضها ما أمكنهم حتى ولو أصبحوا في خندق واحد مع تنظيم «داعش»، على الأقل في ما يخصّ تحطيم آثار الحضارات القديمة، إذ يطيب لهم عدم التفريق بين الآثار والأصنام، فما أن عبّر الناقد معجب الزهراني، في إحدى الندوات التي تمحورت أيضاً حول التعايش، عن استهجانه لما يقوم به «داعش» من تحطيم وتجريف للآثار الحضارية، حتى قاطعه بعض المحتسبين معترضين، قائلين إن النبي صلى الله عليه وسلّم حطّم الأصنام عند دخوله مكةالمكرمة، مؤكدين أن تحطيم هذه الآثار واجب كل مسلم. الزهراني سعى إلى التوضيح لهم أن ثمة فارقاً كبيراً بين الآثار والأصنام، بيد أن الآخرين لم يصغوا إليه فسادت الفوضى، الأمر الذي دفع أفراداً من قوات الأمن إلى التدخّل وإعادة الهدوء الى القاعة. ولم تكن الندوات الأخرى أفضل حالاً، فالتشكيلية السعودية نجلاء السليم، التي كانت مشاركة أيضاً في إحدى الندوات، اشتكت من أن المحتسبين كانوا يحاصرونها، إضافة إلى إذعان أعضاء في اللجنة التنظيمية للضغط الذي يمثّله هؤلاء المحتسبين، وطلبوا من السليم عدم الصعود إلى المنصّة لإلقاء ورقتها، والقيام بذلك من المكان المخصّص للنساء، وما كان منها إلا أن رفضت إملاءات الجهة المنظّمة، مفضّلة مغادرة القاعة على أن تشارك من غرفة النساء. توالت هذه الأحداث تباعاً، بعد اعتقاد ساد في الأيام الثلاثة الأولى، أن المعرض انطلق بهدوء، وأنه يخلو مما يعكّر الجو وبالتالي سينتهي بسلام، لكن بدأ من اليوم الرابع تبدّد ذلك الاعتقاد. واستهجن عدد من المثقفين هذا السلوك وتلك الطريقة في التعاطي مع القضايا الثقافية، معتبرين أن معرض الكتاب، فضاء الحرية المفترضة، ولا يمكن أن يكون، في رأي الكاتب محمد المحمود، إلا «مجالاً حيوياً للتنوّع والاختلاف، فضاء الأصوات المتنوعة، فضاء الجدليات المتفاعلة بل المتصارعة سلمياً». على رغم ذلك، ما حدث سبق له أن تكرّر في الدورات الماضية للمعرض، الذي يتحوّل إلى ما يشبه ساحة صراع بين تيارات عدة، تناقض بعضها بعضاً. لكن ما يقوم به هؤلاء المحتسبون، لا يمثل جهة رسمية، وفقاً لتصريح «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، إنما هم ينطلقون في ممارسة أفعالهم من قناعات شخصية ضيّقة، قناعات تضيق بالآخر ورأيه. وكان وزير الثقافة والإعلام عادل الطريفي، قال في حفلة افتتاح المعرض، الذي شارك فيه أكثر من 915 دار نشر عرضت نحو 600 ألف عنوان، إن «كتاب الرياض» يأتي في مرحلة تسود فيها تيارات عنف وإلحاد «تتحدى الأمن والاستقرار، وتستلزم جهود مثقّفي العالم وكتّابه، لكشف زيفهم وتعزيز مبدأ التعايش بين البشر والثقافات، وهنا يأتي دور الكتاب والكاتب». اختار المعرض، الذي استمرّ 10 أيام، دولة جنوب أفريقيا ضيف الشرف لهذه الدورة، باعتبارها «بلاد الثقافة العريقة والأديان المتعددة، ولها جذور تتداخل مع الثقافة العربية والآسيوية والغربية وغيرها من ثقافات العالم». وقدّم وفد دولة ضيف الشرف ندوات متنوعة، تناولت جوانب من الثقافة والأدب في جنوب أفريقيا وقضايا أخرى، لكن الجناح المخصّص لها، وإن حظي بإقبال جيد، إلا أنه خلا من أي كتاب مترجم إلى اللغة العربية، وهو ما أثار تساؤلات لدى الزوار، قبل أن يكتشفوا أن جنوب أفريقيا لم يسعفها الوقت الذي كان ضيقاً ومحدوداً لعمل الترتيبات اللازمة، إذ لم تتبلّغ قرار اختيارها سوى قبل انطلاق المعرض بأيام معدودة. وتأسّف مثقفون على أن المعرض، وعلى رغم الأعوام التي مضت على انطلاقته الأولى، «لا يبدو أنه يستفيد من الأخطاء وعدم دقة التنظيم، والتأخر في إعلان الفاعليات، وكذلك التباطؤ في دعوة المشاركين قبل وقت كاف، تحسباً لأي طارئ». في حفل الافتتاح، كرّم وزير الثقافة الفائزين بجائزة أفضل 10 كتب، التي تمنحها وزارة الثقافة والإعلام. واستحدث المعرض في هذه الدورة جائزتَي أفضل دار نشر سعودية وأفضل دار نشر أجنبية، كما احتفى بالأدباء الراحلين، عبر تخصيص ركن لإصداراتهم. وكرّم وزير الثقافة والإعلام الجديد الدكتور عادل الطريفي، سلفه الوزير السابق الشاعر عبدالعزيز خوجة، «الذي كانت له لمساته الجميلة في المعارض السابقة وفي هذا المعرض كذلك، وله جهود بارزة بدأت معه واستمرت ولقيت صدى إيجابياً في دورات المعرض». شارك في الفاعليات الثقافية، أدباء وكتاب من السعودية وبعض البلدان العربية. ومثّل حضور الشاعر زاهر الغافري مناسبة مهمة، وهناك من اعتبره إضافة نوعية الى هذه الدورة من المعرض، وقد احتفى به الوسط الشعري بخاصة. والغافري الذي أصدرت له دار نينوى مجلداً يضمّ خمس مجموعات شعرية، شارك في أمسية إلى جانب الشاعرين نشمي مهنا ومحمد يعقوب. ومن السعوديين شارك في البرنامج الثقافي: محمود تراوري، عبدالعزيز الصقبي، فاطمة تيسان، الدكتور مرزوق بن تنباك، بكر باقادر، محمد رضا نصرالله، إبراهيم الحساوي، ناصر البراق وصالح زمانان. وكان البرنامج الثقافي، الذي لم تكشف تفاصيله سوى قبيل انطلاق المعرض، أثار سجالاً. وأعلن بعض أعضاء اللجنة الثقافية المكلّفة الاعتذار عن الاستمرار، بسبب ما وصفوه تدخلاً من الجهة المنظّمة في عملهم، وحذف أسماء وندوات وإضافة أخرى. مهما قيل عن البرنامج الثقافي الذي ضمّ ندوات شهدت حضوراً رسمياً، مثل ندوة «جهود الملك عبدالله في تحقيق التعايش»، وأخرى عن «الملك سلمان وصناعة الثقافة»، يبقى أمراً محدود الأهمية، ولا يثير الحماسة لمتابعة فقراته، في مقابل المعرض نفسه كحركة بيع وشراء، إذ تكتظ ممراته بالزوار في كل الأوقات، زوار يعبرون عن أنماط متنوعة من التفكير والاهتمامات، وينتمون إلى أجيال مختلفة، ويأتون من مدن بعيدة غير مدينة الرياض التي تحتضن المعرض، الذي يتحول عاماً فآخر إلى تظاهرة ثقافية شعبية فريدة. ويحقق الناشرون مبيعات عالية لا تتوافر لهم في أي مكان آخر، من هنا الحرص الشديد على المشاركة من الناشرين العرب وسواهم، ولو عبر وكلاء. وشهدت دور النشر السعودية أو تلك التي يملكها سعوديون، مثل «مدارك» و«جداول» و«أثر» و«طوى» إقبالاً لافتاً. كما نالت دور نشر عربية نصيبها من اهتمام الزائرين، فأقبلوا على إصداراتها الجديدة، مثل دار «توبقال» و«التنوير» و«الآداب» و«المركز الثقافي العربي» و«الدار العربية للعلوم» و«ضفاف» و«الساقي» و«المؤسسة العربية للدراسات والنشر». «نوستالجيا»... مونودراما تجسد مأساة الكائن تناولت المسرحية التي كتبها الشاعر والكاتب المسرحي صالح زمانان وعنوانها «نوستالجيا»، والتي عرضت ضمن فعاليات معرض الكتاب، العديد من القضايا والتفاعلات الإنسانية عبر استخدام أكثر من ثيمة، إذ بدأت المسرحية بعرض مرئي يحاكي غياب الممثل عن البروفات واختفائه المفاجئ. استفاد المخرج سلطان الغامدي من وجود الحشود في المعرض في إحدى ساعات الذروة، بعدها انطلق الممثل إبراهيم الحساوي في أدائية متواصلة، شرّعت في تجسيد لحظة الوجود والولادة حتى المشيب، ليواصل بعدها إشكالية مرض «النوستالجيا» الذي هو مرض الحنين إلى الماضي. وعبرت المسرحية عبر لغة شعرية عالية استخدمها الكاتب في استدعاء الماضي ووفاة أمه المبكرة، «روزنامة» أحزانه المتوالية، سواء الفلسفية منها أم الأحزان اليومية التي قد تمر على أية شخصية محتملة في الحياة. اعتمد المخرج على تكنيك يقترب من المسرح الفقير، مستخدماً قصاصات كثيرة وصغيرة من الذاكرة الموضوعة في القمامة، استفاد منها أيضاً في بعثرة النقاط والتجاذبات بين الهموم الوجودية والأحزان اليومية في السياق المسرحي. واستمر العمل في احتدام متواصل للتعبير عن مأساة الشخصية ونبش الذاكرة للماضي، حتى وصل به الأمر في نهاية الأداء لترديد جملة «القبر ليس غرفة لتبديل الملابس.. لكنه أول الدرب في النزهة الأبدية»، إذ رددها كغناء بطريقة «النهام»، بعدها ردد ذات الجملة مُطبقاً صناديق القمامة على جسده بالكامل. وفي نظرة شمولية للعمل كان المخرج يستخدم أكثر من ثيمة في التقنية والأداء، فيما كرس جوانب من المسرح الفقير ليستفيد من أدائية الممثل العالية بنصٍ مكثف الشعرية والصوت الوجودي الصارخ. يذكر أن المسرحية احتوت على أشعار تم وضعها في المتوالية الدرامية بالعمل، وهي للشاعر علي الحازمي، ولحنها الفنان والموسيقي خليل المويل.