لا تخضع غالبية نصوص الشاعر إبراهيم حسن للطاقة اللغوية، التي توفّرها أساليب البيان، والواردة في كتابه الأول «العائد من وجهه» (جمعية الثقافة والفنون بالدمام - 2017، توزيع: دار مسعى)، إذْ يهيمن الجانب الأدائي الوظيفي في استخدام اللغة بعيداً عن الصور المعتادة، فيستمد النص شعريّته من مكانٍ آخر ومن ينابيع إبداعية مجاورة؛ اقتراضاً وتحويلاً وإدماجاً. ولأجل هذا الغرض، ربّما، جاء نص «يمكن أن تكون شاعراً من دون أن تكتب حرفاً واحداً» في المقدّمة الأولى من نصوص الكتاب؛ استهلالاً يشير إلى توليد الحالات الشعرية، والوصول إلى «القصيدة» بلا رافعة منحازة إلى اللغة؛ بانبجاس الشرارة التحويلية من الذات التي يتغيّر معها المنظور والموقع والزاوية، من خلال أنسنة ما ليس بشرياً - حيواناً أو جماداً - وقلب مآلات بعض الحكايات بنزعها من سياقها المعروف وزرعها في سياقٍ جديدٍ - تنبئ عنه علامة الاستفهام - من شأنه أن يساهم في صناعة شعرية النص: «هل جرّبتَ المشي بجانب قطة تقطع الشارع العام؟/ هذا الذعر الخفيف المشترك بينكما، وابتسامتك لها حين تقفزان على الرصيف.. بتعب/.../ هل جرّبتَ يوماً، منْح سيجارة دافئة للسيجارة الأخيرة في علبة السجائر؟/ أن تمنح الغراب، الكثير من الجبن قبل مجيء الثعلب، في كتاب المطالعة؟/ أن تصنع لأقدام الفتيات الوحيدات، أحذية تمنحهن حظّ السندريلا كفرصة ثانية؟». بهذا الاعتبار نجد أن الشاعر يختار الحكاية، ويجعلها عماد حقله التعبيري، والمجال الذي ينفذ منه إلى الاشتباك بالعالم وبمفرداته وبذاته، وقراءة كل ذلك قراءة جماليّة وعلى نحوٍ عامرٍ بالدهشة.. فتتنوّع تلك الحكايات؛ ابتكاراً على غير سابقة، مثل الأشجار التي كانت لها حياة كاملةٌ إنسانيّة في المعيش والحركة واللهو وتسيير أمورها اليوميّة، حتى أتى الإنسان لينقطع ذلك الشكل من الحياة ومن الممارسة، وتغدو كائناتٍ متسمّرةً في مكانها، ثابتةً على الأرصفة تتفرّج على من ألزمها التغيير وأدخلها في دورة انتظارٍ أبديّة (صفحة 24 من نص: مثل شجرة أو أقل).. أو يقدّم الحكاية في قالبٍ وصفيٍّ سيّال بعيداً عن حالة التجميد، كما تتجلّى في نص «طُعْم أزرق»، حيث العنوان الموجّه إلى البحر؛ الفخ الأزرق، ويندرج تحت ضوئه تلوينٌ لحكاية الصياد وفرائسه/ السمكات التي تحجم عن المصير أو تُدفَع إليه؛ إلى «انتحارٍ شهيّ».. فيمرّ النص إلى خاتمته عبر مشهدٍ وصفيّ كأنما هو تلخيص لمعضلة الوجود. ثلاث لقطات متراصّة متتابعة. تقطيع سينمائي تنداح فيه بؤرة حارقة، يتكثّف فيها المشهد ويندلع منها الشعر: (الصيّاد قبل انتشال فريسته/ ينظر نحو السماء/ بشُكرٍ/ السمكة تنظر نحو السماء/ أيضاً- بعتاب./ السماء ترفع أكتافها/ وتهرب في المطر).. وفي أحيانٍ أخرى يرجع الشاعر بحكايته إلى البدء. يقلع ويحرث من جديد. يخرج من الإطار التاريخي مكتفياً من الأصل بالخطوط الخارجية؛ بالأسماء وحمولتها الرمزية، ثم يعيد التخليق بإنشاءٍ بِكْر يجد ترجمته في مقعَد الحديقة وحياته الممتدّة النابتة من الشجر، بحفيفٍ كامن ينتظر من يخرجه ويصغي إليه ويضوّعه في الأنحناء، حاملاً لوعةَ الانشطار الجسدي وما يبثّهُ - هذا الانشطار - من حنينٍ وتوقٍ وشغف؛ يعلنه الصوتُ؛ تذيعُهُ الأغنية المحفورة في خشب المقعد؛ في ذاكرته: (كان وحيداً، لم يشعر بذلك، إلا حين طرق بأصابعه شجرةً يجلس عليها،/ فبكى../ قالت الشجرة: اِحملْ صوتي./ طرقَها بيديه، ارتفعَ الصوت بجناحيه عالياً../ نظر إليه آدم بسكينة/ أشار إليه، فانبجستْ منه آلافُ الألوان التي ابتلعتْها أخشابُ الغابة./ بعد أعوام../ كان لا يزال جالساً هناك.. وبيده خشبةٌ ناعمة يطرق عليها..// أسماها حوّاء، بعد غناءٍ طويل). تغري الشاعرَ إبراهيم حسن الحكايةُ فيستقرّ على زهرتها؛ يعالج مذاقاتٍ وروائح. يسحرُه النداء ويأخذُه التأمل. يحيدُ به الطريق فيتبعه؛ ثمّة حكاية وفراغ ينتظرانه؛ ثمّة أصلٌ للحكاية لا يرويه إلا هو: «قال جدّي الفأس/ الأشجار هم السُّكانُ الأصليّون للعالم». * ناقد سعودي.