في عالم عربي محاط بالسواد والعنف والأعمال البربرية التي تتنافى وعالم الأنوار الذي حققته الحداثة، أجد بيروت، كلما زرتها، بقعة ضوء كريستالي شفاف. بيروت الأنوار والكتاب والحداثة- هي أيضاً- لم تعد تنجو من محاولات الخدش والدسيسة والتآمر على جمالها. تآمر براني، جاء على مفاتن دولة مجاورة فقضى على فسحة الليل الناعم فيها، والأريحية التي كانت تتجول في مساءاتها. وقضى على السلام العام والأنس الداخلي والرغادة المتوفرة في الأزقة الجميلة والمشربيات المطعمة بأغاني الرحابنة وسيد درويش والمقامات الحلبية. يحلو المساء على شاطئ البحر، ويحلو للصيادين أن يجسوا الغروب الليموني بسناراتهم، وهم يعدّون السمكات في السلال، قوت الرغائب، وفرائس الرياضة الذهنية. يمنح البحر للماشين بمحاذاته وقتاً برتقالياً وشموساً نحاسية وهواء مُشْبعاً بطعم الملح والريح المحمولة في الأشرعة. بيروت لم تعد مدينة الحالمين، بل مدينة الأغنياء والمطربين. كل شيء تراه ينتسب للفقراء، يزول ويمحى مع مرور الزمن العربي الذي يركل العراقة والروح المشرقية بينما يقدس المستورد والموضة والطرائق الشاذة عن تقاليدنا. ثمار الجمّيزة لم تكن الجمّيزة سابقاً سوى شارع سكني ضيق وطويل، يضم طائفة واسعة من الأرمن. شارع قديم وأنيق، بأدراجه الطويلة والملتوية التي تذكر بأوقات بيروت الجميلة، وسلالم راح يلوّنها العشاق والمحبّون والفنانون الذين يسعون إلى الحفاظ على الذكريات وما تبقى من الماضي الهنيء. أسماء الأرمن تجدها مكتوبة على دكاكينهم ومحلاتهم. إنه شارع سحر وليل، شارع الهوى والسهر حتى ترى الشمس راقصة على أول موجة بحرية، يبدأ من «مقهى ليلى» وينتهي ب «شارع أرمينيا»، ويحتاج إلى نصف ساعة من المشي لتكمله كله. فيه زواريب وشجيرات ظليلة وقصيرة وزحمة سيارات وضجيج ليلي، يتصاعد باتجاه الأبراج العالية، والشقق السكنية ذات الشبابيك والدرفات والأبواب الخشبية الخضر، والبحر كعادته يباغتك فيطل بين فينة وأخرى من خلال مطلات التهوية وعبر الأدراج النازلة باتجاه المرفأ. خلال مسيري، أستطيع رؤية الكواثل والقلوع والسفن الشراعية والبواخر العائدة من اليونان وقبرص والإسكندرية واسطنبول بحمولتها وبضائعها الأجنبية، فالبحر يوافيك بين حين وحين ليلقي عليك تحيته الزرقاء. ولكن ما أحزنني في هذا الشارع هو إلغاء مقهى «القزاز»، واستبداله ببناء لمصرف جديد، فالمقهى كان من المعالم التراثية القديمة، لكنّ الراهن هو غير الماضي. البحر أيضاً صار يباع ويشترى، في هذه الأزمنة اللعينة. وكم اختزل من شاطئ البحر في عهد الهررة التجارية ومقاوليه؟ كم حُجب البحر بأبنية وفنادق فارهة، تمنع الحرية من أن تهبط إلى ساحله لتسبح فيه وتتشمس على شاطئه الفيروزي؟ ثمة تلوث لحق بالمناطق الفقيرة التي يشرف عليها البحر، ثمة من يحاول أن يغلف الهواء البحري ويمنعه عن الفقراء. من منطقة الكولا في قلب بيروت، أنطلق بالسرفيس مع العامة إلى شتورا، مسافراً في الشجرات وجذوعها السميكة، مرفوعاً قليلاً مع أجنحة الدوري ومناقير الوروار إلى حيث تدوِّم السحب في مسيرة حاشدة، فكلما ارتفعت باتجاه الجبل، أو كلما كنت قريباً من ريشات طير، ستكون السحب في متناول اليد، أحاول قطف واحدة لثقبها وشرب ما في داخلها، لكني أتراجع وأقول: لأتركها تتجول في مرايا الجبال فإني سأصبح هنا مثل قاطف الزهر، فإن قطفتها فلسوف تذبُل. أتجاوز شتورا والبقاع المزروعة بالهناء والشموس وأحلام المزارعين، واصلاً إلى حيث يطيب المقام للقلب في زحلة، مرتدياً الظلال الطويلة التي تسحب الرذاذ الكامن خلف شجرات الدلب والحور والصنوبر. ذلك المتحفّز للترع والينابيع وعيون الماء. أنزل بين شجرتين، وآخذ طريقي إلى قلب مقاهي البردوني التي ترفرف فيها البرودة النعيمية، والضباب المتصاعد من جوف مغارة يسوعية، أو الخارج من شجرة خوخ وشرشف يلعب عليه الهواء لعبته الأثيرة، هي القفز والاختباء بين أرجل الطاولات التي تحمل الحالمين والشاربين إلى عالمهم المستغرق في الأثير، عالم الخيال والتصوّرات القريبة من تصوّرات رينوار وتوهمات المتنبي ومخيال أبي نواس، الحالم بأن يدفن تحت جذع كرمة، وما أكثر الكروم والكرّامين في هذا المكان المغموس في الجنان والمتسربل بالقمم وقيعان الوادي. بين سلتين أجلس، كمثرى وتفاح، والأطايب تمرّ بالقرب مني، وهي ترفل بالنفيس. أتذكر شوقي، وجارة الوادي، هأنذا جالس في حضن جارة الوادي تداعب شعري وتطعمني المنى وبيدها الأخرى تسقيني رشفات عليلة من سُلاف زحلة، أنهض لأحيي أحمد شوقي وكلماته المرنانة التي صبّها عبدالوهاب بوتر صنعه من ضلوعه ورنّته الجوانية، أتمتم كلمات تقريظ للنهير الذي يمرّ من على يميني فأحمّله شيئاً من القوافي التي أخذها مني دون أن يلتفت إليّ، سوى أنه وهو يعبرني كلّ لحظة كان يرذذني بمرشة كبيرة نُسِجَتْ من الرذاذ والنسيم. طريق دمشق وأنا عائد مودعاً الحرير النائم فوق قمم زحلة، توصلني سيارة لصديق أبي جورج ظل طوال الطريق يحدّثني عن العراقوبغداد وكيف أنه عاش فيها أواسط السبعينات، إبّان الحرب الأهلية اللبنانية ، وتاجر في بضاعة كان ينقلها ما بين العراقولبنان، متحدثاً عن نعيم بغداد السالف، الذي لم يتبق منه شيء الآن. كانت شتورا لحظتئذ لم تعد ذلك المكان الضاج بالزحمة والسيارات والمتبضّعين والمسافرين ما بين لبنان وسورية. هنا وفي هذا المكان جلستُ في مقهى متواضع، أراقب حركة السائرين، كوني كنت دائماً وفي كلّ صائفة من كل عام وعلى مدار أكثر من ربع قرن أجيء إلى هنا لأذهب إلى دمشق، لأني أعتبر زيارتي إلى لبنان سوف لن تكتمل دون تكحيل العين بمرأى الشام ودون شرب الزنجبيل في شوارعها وملامسة الهواء المُصدَّر من ناحية بردى. أجلس وأسرح في تيار بعيد... فأحسبني في ظلال فندق قريب من كل شيء، غرفه واسعة وكبيرة، وفيه شرفات تطل على شجرات برتقال وليمون وأناناس، رائحة الياسمين تملأ الفندق. بعدها أذهب إلى مقهى الروضة الذي يبعد خطوات قليلة عن المكان. أدخل باحثاً عن صديق مدمن على الجلوس في المقهى، فأراه دائماً في مكانه ذاته، أسلم عليه وأشرب شاياً معه وأسأله عن بقية الأصدقاء، فهو الدليل، وهو العارف بمواقيت مجيئهم وإيابهم من المقهى. في الخارج أصادف أحدهم فنذهب دون تخطيط إلى مكان أليف نروي فيه الحواس مما تحتاجه من وصايا باخوس. حين ننتهي نمرّ إلى مطعم يطعمنا الأكلات الشامية التي لا مثيل لها في دقة الصنع والإعداد وتوليفة اللذة، في الطريق في أيام الجمع، رصيف شارع الصالحية يتحوّل إلى بيع الكتب المستعملة، مقابل سينما الحمراء، مجلات قديمة تحكي تاريخ دمشق البعيد، حكومات وانقلابات وتظاهرات لجموع وحشود شبابية تؤيد الوحدة العربية التي حدثت بين دمشقوالقاهرة، وكانت بغداد تستعد لها بحماس الرئيس عارف الأول، صور لعبدالكريم قاسم والشيشكلي وحسني الزعيم، وكميل شمعون والمهداوي وشارل الحلو وصائب سلام، إلى جانب صور فاتن حمامة وعمر الشريف وسعاد حسني ومريم فخر الدين ورشدي أباظة ويوسف شاهين بشامته الكبيرة من جهة الأنف ومحنته مع هند رستم، صور تحكي أمجاد هؤلاء العمالقة الذين لا يتكررون. رصيف شارع الصالحية تحس وأنت تتصفّح الرصيف، وهو يحمل مجلات المصور والكواكب والشبكة والموعد والهلال وطبيبك، بأنك تدخل ذلك العالم الحافل بقصص وأخبار الموسيقيين والملحنين والفنانين، تحقيقات ومقابلات وكشف أسرار وإماطة اللثام عن المسكوت عنه لأسماء سياسية وأدبية وفنية لا تحصى من تاريخ الجمال العربي القديم ولحظاته الماسية. ظلال شجرات الصالحية تميس، وباعة الفستق الحلبي في الجوار. وفي منعطف آخر من الصالحية ومقابل سينما السفراء، تجد بائع كتب قديمة ينشر صوراً قديمة ومجلات قديمة ويعرض كتباً فوق سياج يذكرك بسور الأزبكية في القاهرة. ثمة في الشام دور سينما جميلة، أبرزها سينما الشام التابعة لفندق الشام ومقهاه المنير الذي صمّم بطريقة شامية مستمدة من الطابع القيشاني والتخاريم الأندلسية والطنف الغرناطية التي برع بها الدمشقيون القدامى، كونها فنّهم وقد صدّروه في يوم ما إلى إشبيلية وقصر الحمراء وغرناطة. وأنا جالس في مقهاي المتواضع ومعي حقيبة صغيرة في شتورا أراقب المسافرين القليلين الذاهبين إلى الشام، كنت أتخيّلني أني بانتظار السيارة التي ستقلني إلى هناك، لقد مرّت أربعة أعوام دون مرأى الشام، شام الهوى والرضا المتنائي، أحس أني سأصل لأذهب في جولة ناعمة في سوق الحميدية، لأغرق في كرنفال الضوء والأشواق والأريج المُصَنَّع بطريقة عطار شامي، يتقن فن الزهور وحركة الندى ودوران النحل حول الكأس وحول الغوى الملتف على سويق الوردة. بعد نهاية الحميدية سأرتطم بالرحاب المرمري للجامع الأموي، أتجاوز الخلود المحفور في الرخام والمتدلي من الثريات إلى مقهى النوفرة، الحكواتي ما زال هناك يقص مآثر الحجر القائم في دمشق وزرع القصص الخيالية عن أبطال مرّوا هناك. وحين أجدني ارتويت من المشهد الليلكي لذاك الزمان، أيمم صوب أزقة الشام القديمة وحاراتها المثالية ذات الشناشيل المُعشّقة والسطوح المتقاربة التي تُقبِّل بعضها بعضاً، ولا ينتهي مسعاي إلا في «باب توما» حيث الخيارات كثيرة هناك، لسقي المخيلة مما ترتأي من جماليات تليق بها وتجعلها تحلق في تلك الآفاق السكرية. ولكي لا أتمادى في التفكير أكثر من ذلك، أترك المقهى وأقرّر الذهاب إلى دمشق، فهي على مرمى ساعة ونصف الساعة فقط. أدفع لصاحب المقهى الذي رآني حائراً في أمر ما، فسألني عن ماذا يشغل بالي وجعلني أغرق في سحابة من الصمت والانشداه والتفكر، فأفصحت له عن رأيي في الذهاب إلى الشام، فقال وما الغرابة في ذلك، تلك السيارة الصفراء الواقفة هناك ينقصها راكب واحد أسرع إليها... وحين هممت بالإسراع نحوها سألني صاحب المقهى، وأنا ألتقط حقيبتي الصغيرة من الأرض، يبدو أنك لست سورياً، فقلت: أجل، فقال: عليك توخي الحذر، فالطريق ليست سالكة كما تظن، والسماء خطرة، فحاول أن تتجنب سقوط برميل متفجر يسقط فوق حياتك. وحين أنهى صاحب المقهى جملته، ذهبت إلى السيارة الصفراء التي كان ينقصها راكب واحد أيضاً لتنطلق باتجاه بيروت.