إبراهيم عبدالمجيد، يحافظ على وجوده، عبر روايات بموضوعات مختلفة، تتفق غالبيتها في دوران أحداثها داخل الإسكندرية، التي حظيت بثلاثية روائية. يؤرخ للمدينة راصداً أحوالها وتغيرات طرأت عليها بداية من الحرب العالمية الأولى وانتهاءً بثورة كانون الثاني (يناير) 2011، بدأت ب «لا أحد ينام في الإسكندرية»، ثم «طيور العنبر»، وأخيراً «الإسكندرية في غيمة». وأخيراً احتفل إبراهيم عبدالمجيد بحدثين، سبعينيته، وصدور أحدث رواياته «قطط العام الفائت»، عن الدار المصرية - اللبنانية. «في بلد يسمى لاوند قامت ثورة في اليوم نفسه الذي حدثت فيه الثورة في مصرايم. هنا ما جرى في لاوند وأي تشابه مع الواقع غير مقصود». هكذا، تبدأ الرواية التي تسرد أحداث الثورة المصرية، في إطار فانتازي، يرمز إلى الثوار بالقطط، ويسمي ميدان التحرير، الميدان الكبير، وجماعة «الإخوان المسلمين»، جماعة «النصيحة والهدى»، ويستحضر سعاد حسني لتعطي طاقات إيجابية للثوار. هنا حوار معه: نبدأ بالعنوان؛ «قطط العام الفائت»... لماذا آثرت استخدام لفظة الفائت على الماضي، أو السابق، مثلاً؟ - في الثقافة الشعبية، تدل كلمة «الفائت» على أن ما ذهب لن يعود مرة أخرى، بخلاف كلمة «الماضي» التي يمكن أن تحضر في وقتنا هذا عبر ذكريات تطل بوجهها على ما يحدث الساعة. في الرواية حدث العكس، عادت الثورة من جديد بعد ما ظنَّ الحاكم أنها ذهبت من دون رجعة. كلمة «الفائت» تعبر عن وعي الحاكم، الذي وصل إلى اليقين باستحالة عودة الثورة من جديد. لماذا رمزت إلى الثوار بالقطط تحديداً؟ - لا أملك إجابة. أثناء الكتابة تحدث أشياء من دون قصد منك. أؤمن بأن الرواية تكتب نفسها، فقط تكون عندي الفكرة بإطارها العام. كل ما قصدته هو أن أقول شيئاً جديداً، لم يحدث من قبل. مثلًا: لم أكن لأخطط من أجل ظهور الكائن الأسطوري «كينغ كونغ» في الميدان الكبير، ولكن وجدته يقفز على الورق ولمحت فكرة لطيفة تتأهب للدخول ضمن الرواية ففعلت. الآن، لدينا أكثر من رواية تحاكي رواية «1984» لجورج أورويل. هذه الروايات تستشرف المستقبل ويكون الكلام فيها حول القمع والاستبداد وديكتاتورية الحاكم، ويكون هذا الحديث متوقعاً. لذلك، ذهبت إلى منطقة أخرى، عبر استعادة الماضي ومحاولة بعثه من جديد. ربما يكون اختيار القطط رمزاً للثوار، لأنها معروفة بوداعتها. ولماذا اخترت سعاد حسني نموذجاً لشحن الثوار بطاقات إيجابية؟ - لا أعرف. ربما لأني أحبها، مثل كثيرين يعشقون براءتها الممزوجة بسحر عينيها. هل يمكن تصنيف هذا العمل بأنه رواية رمزية؟ - قد يعتبر رواية رمزية، أو عالماً موازياً. أكثر ما أرهقني هو محاولة أن أجعل القارئ لا يفرق بين الواقع والخيال، فيقرأ العالمين كأنهما من نسيج واحد. كنت دقيقاً للغاية أثناء المراجعة، بحيث أبتعد، قدر استطاعتي، عن المبالغة في الغرائبية كي تصبح المواقف عادية. ألا ترى أنك استخدمت هاشتاغ ( #سيبوا-القطط-يا-عرر) ببعض المبالغة؟ - لا أعتقد ذلك. أريد أن أخبرك أنني حذفت عدداً كبيراً من التعابير الاحتجاجية، وما تبقى كان في صلب الموضوع ولخدمة الفن في الرواية، كما أننا نتحدث عن ثورة يقودها شباب، وهو مناسب لتفكيرهم جداً. تظهر الموسيقى كثيراً في خلفية رواياتك، وفي القلب من بعضها، إلى الدرجة التي دفعتك إلى تأليف رواية تحمل اسم لحن «أداجيو»... ما علاقتك بالموسيقى؟ - علاقتي بالموسيقى عظيمة جداً. في طفولتي كنت أستمع إلى الراديو، وذات مساء، وبينما كان أنيس منصور يجلس على مقعد الضيف، قال أنه يحب الاستماع إلى البرنامج الموسيقي لما يبثه من موسيقى كلاسيكية رائقة جداً. بحثت عن البرنامج الموسيقي حتى وجدتُه، وإلى الآن لا أستمع إلا إلى هذا البرنامج. أذكر أن محطة «البرنامج الثقافي»، في الراديو المصري، كانت تقدم ساعة أسبوعياً مع حسين فوزي الذي كان يتحدث عن الموسيقى الكلاسيكية بطريقة سهلة كأنه يجلس معك في البيت. كان أي أحد يستطيع أن يفهمه. أحببتُ الموسيقى من خلاله. اكتشفتُ بعد ذلك أن هذا البرنامج يترك الموسيقى وحدها تعمل من دون مذيع منذ الثانية وحتى السادسة صباحاً، وهو الوقت الذي أجلس فيه لأكتب، وأفكر، في هدوء. لم أكن ملتزماً بعمل طيلة حياتي. قد أذهب إلى العمل مرة أو اثنتين في الشهر، لأتفرغ للكتابة. ولماذا هذا اللحن تحديداً؟ - كان يتكرر كثيراً، وسط الألحان، لحن حزين جداً. أحببتُه حتى تخلَّل روحي. بحثتُ عنه حتى عرفت اسمه؛ «أداجيو». في 2003 نشرت روايتي «برج العذراء» وكنت فيها ناقماً على الحياة، كارهاً إياها، بعد وفاة زوجتي بداء السرطان. منذ ذلك الوقت وأنا أريد كتابة رواية عن لحن «أداجيو»، لكني لم أكن قادراً، فقد حاولت مرةً ولكني بكيت كثيراً بعد خمسة سطور فقط، فتوقفت عن الكتابة. في هذه المرة، وبعد مرور 12 عاماً استطعت الكتابة عن اللحن والمرض. بكيتُ أيضاً هذه المرة، ولكن في منتصف الرواية، وقررتُ أن أكمل ما بدأت، فكان «أداجيو»، لحني الأثير. تنتظر 12 عاماً لتكتب الرواية؟ ألم تخش ضياع فكرتك؟ - لا، فأنا لا أدون أفكاري عن الكتابة. تأتي الفكرة فأتركها حتى أعود إليها في وقت لاحق. إن بقيت فلا بأس، وإن تبخرت من ذهني، فأنا على يقين بأن عشرات غيرها ستقفز إلى الذهن. أذكر مرة أرادت مذيعة، لا أذكر اسمها الآن، أن تجري معي حواراً عن «مفكرة الكاتب» وعندما أخبرتها بأنني لا أدون أفكاري ولا أحمل مفكرات، وقفت مبهوتة، لأن هذا معناه ضياع الحلقة، ولكن عالجنا الموقف بأن دار الحوار حول ذاكرتي الخاصة التي أعتمد عليها: ذاكرة النسيان. لا تعتبر ثلاثية الإسكندرية حكاية متصلة كثلاثية نجيب محفوظ... هل هي تأريخ للمدينة؟ - هي تاريخ وتأريخ للمدينة. لم أكن أفكر في الثلاثية قبل رواية «لا أحد ينام في الإسكندرية». بعد الرواية ظهرت لي الفكرة، فكتبت «طيور العنبر»، ثم «الإسكندرية في غيمة». الإسكندرية مدينة عالمية، لكنها انهارت على مراحل، الأولى بعد ثورة تموز (يوليو) وتحت شعار القومية العربية تمَّ التخلص من الأجانب في المدينة. في السبعينات أصبحت مدينة سلفية، ثم طرأت عليها تغيرات في نهاية التسعينات وحتى قيام ثورة كانون الثاني. ترصد الثلاثية مراحل تطور الإسكندرية، من العالمية، إلى المصرية، إلى السلفية. ما الذي يفسر حضور الإسكندرية في غالبية إنتاجك الأدبي؟ - عشت طفولتي، مراهقتي، وشبابي فيها. تركتها وأنا ابن 25 عاماً. تشربتُها في شكل كبير، ولم أقدر على التخلص منها مهما حاولت. دائماً أجد المدينة تناديني ويجذبني نحوها شيء غامض. تؤمن بالفلسفة الوجودية، وتتحدث كثيراً عن أهميتها... فيمَ أفادتك دراستك الفلسفة في كتاباتك الأدبية؟ - قد تقول في رواية ما أن هذا العالم هو عالم اغتراب يقوم على الوحشة والانعزالية، وقد تقوم بوضع بطلك في مكان لا أحد فيه. الخيار الأول ليس بفن وإنما هو تقرير بحت، أما الثاني فيخدم الفن في النص. هنا تفيدني الفلسفة وتسعفني للتعبير عما أريد قوله. في رواية «لا أحد ينام في الإسكندرية» شخصية ثانوية هي شخصية ساعي البريد الذي استمر في عمله بعد أن قامت الحرب وعندما سأله أحدهم، أجاب بأنه يفعل ما داوَم عليه طيلة سنوات ماضية. هو استلب حريته عبر مهنته ولم يعد يدرك أنه لا بريد وسط تلك الظروف. الاغتراب مسألة مهمة في الفلسفة الوجودية، تأتي من الكون حيث يولد الإنسان ويموت بلا إرادة. بين الميلاد والموت يوجد الجحيم. الآخرون هم هذا الجحيم. أما في الماركسية فيأتي الاغتراب من الآلة التي يريد الإنسان أن يكسرها. لقد وصلتُ بالفلسفة إلى أن المكان موجود أكثر من الإنسان. بمعنى؟ - في الروايات الكلاسيكية والرومانسية، يصبح المكان والزمان قيد الحالة العاطفية للإنسان، ولكني ذهبتُ إلى أن الأشياء هي صانعة الإنسان، إذا كنتَ في الصحراء وتريد أن تأكل، فلن تستطيع وستغني مثلاً، أما إذا كنت في المدينة فستذهب فوراً إلى المطعم لتأكل. عندما تنتظر شخصاً ما، فستتحدث بلغة المكان الذي أنت فيه. لغتك حين تجلس في مطعم، ليست هي ذاتها حين توجد في ميكروباص، أو حديقة مثلاً. هكذا اهتديتُ إلى أن المكان هو صانع الشخصية. في رواية «بيت الياسمين»، يبدأ كل فصل بحكاية تراجيدية لا علاقة لها بباقي الفصل، وتبدو هذه الحكايات دخيلة على النص الأصلي للرواية... - اجتهد النقاد كثيراً محاولين إيجاد علاقة بين هذه الحكايات وباقي الفصول. بعضهم نجح في استنتاج علاقة أو اثنتين، ولكن لم ينجح أحد في تفسير العلاقات كاملة. كل ما أردتُ أن أقول هو أن العالم أكبر من ذلك، وعندما يقرأ أحدٌ فإنه يحاول أن يفهم التناقض بين الدراما في الحكايات الصغيرة في مداخل الفصول وبين الكوميديا في باقي الفصول. كانت متعة، ولا أنسى صديقي محمد كشيك عندما قال لي أن أجمع تلك الحكايات التراجيدية الصغيرة في كتاب مستقل، لكني رفضت لأني لم أكن واثقاً في أني قادر على فعلها مرة أخرى. رفضت العمل محرراً في جريدة «الأهرام» القاهرية عام 1975... لماذا؟ - رفضت العمل أيضاً في جريدة «الأخبار» القاهرية. طبيعة العمل الصحافي لا تناسبني، لأنها حتماً ستؤثر في أسلوبي في الكتابة. هناك آخرون يستطيعون الفصل بين الكتابة الصحافية والأدبية، لكني لم أرد أن أحاول. كما أن في هذه المهنة مشاكل وصراعات لا طاقة لي بها ولا أحب الخوض فيها. لهذا آثرتُ التفرغ للأدب، الذي أفهمه، وأحبه. لدينا إنتاج أدبي ضخم، لكنه لا يجد حركة نقدية ترصده... ما تفسيرك؟ - أصبح النشر سهلاً، والمعروض يفوق طاقة النقاد. معظم النقاد مشغولون بالدراسات الجامعية، وقليل منهم من يتصدى لعمل نقدي. كنا في السبعينات ننشر في «الهلال» و «الهيئة العامة للكتاب» فقط. الجوائز حفَّزت على الكتابة في شكل منتظم. أصبح لدينا نقاد وشعراء يكتبون الرواية. قلت من قبل أنك تتمنى إلغاء وزارة الثقافة... لماذا؟ - هذه الوزارة جاءت ضمن آليات الحكم الشمولي بعد ثورة 1952 من أجل إحكام السيطرة على كل شيء داخل الدولة بما في ذلك الثقافة ودورها. الآن لم يعد لها دور. أنا أريد أن تُلغى تماماً وتتحول الدولة باتجاه دعم القطاع الخاص الذي ينشر أضعاف ما تنشره الهيئات الحكومية. يجب أن تتحول «الهيئة العامة للكتاب»، و «هيئة قصور الثقافة» إلى قطاع خاص مع بقاء دار الأوبرا وجوائز الدولة. في فرنسا لا تتولى وزارة الثقافة نشر الكتب، لكنها تدعم الناشرين والمعيار لديها هو الفن وجودة النص، لا شيء آخر. اليوم تخبرنا الدولة، في كل وقت، أنها مع الحرية وضد الحكم الشمولي، فلماذا تنشر الكتب وتتولى إدارة الثقافة؟ ما الجديد عندك؟ - كتاب في عنوان «أنا والسينما»، قيد النشر عبر دار «بيت الياسمين». يحكي عن علاقتي بالسينما وشغفي بها، الذي بدأ مذ كنتُ في الخامسة من عمري. كنت إذا شاهدت فيلماً مأخوذاً عن عمل أدبي، أبادر بالبحث عن هذا العمل لأقرأه. هكذا فتحت السينما عيني على الأدب العالمي، وهو أمر يستحق أن أوثقه في كتاب.