كانت السياسة حاضرة من اللحظة الأولى والجوائز «متوازنة وعادلة». ربح الفيلم الإيراني كما كان متوقعاً جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي غير ناطق بالإنكليزية. كما ربح للمرة الأولى في تاريخ هذه الجائزة ممثل أسود «مسلم» جائزة التمثيل للدور الثاني. وكان «افضل فيلم»، وهو يشير إلى المثلية الجنسية في بيئة جديدة بعد أن استنفدت معظم البيئات، «مهم سياسياً واجتماعياً أما سينمائياً فالمسألة أكثر تعقيداً» وفق مجلة «بروميير» الفرنسية. لكن كل هذا مع مهزلة الخطأ في توزيع جائزة أفضل فيلم التي أعلن في البدء أنها لفيلم «لالا لاند» ثم تبين أن ثمة خطأ في الأمر وأن الفائز هو «ضوء القمر»، لا يهم فالأوسكار يبقى بنظر المتابعين العاديين والأقل عادية والمحترفين هو الجائزة الأهم على وجه الخليقة. فقبل الإعلان عن الجائزة بأشهر تنطلق الترشيحات والتسميات وتشتعل مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات والتوقعات من قبل محبي السينما ومن بينهم العرب الناقدون منهم وغير الناقدين، مقابل هذا ثمة غياب تام لاهتمام ولو ضيئل بجوائز السينما الفرنسية» السيزار». أما عن دواعي الاهتمام والاستنفار الكامل لمهرجان كان الذي يهتم كثيراً بالسينما الفرنسية وإهمال جوائز السيزار لهذه السينما فهذا ما يدعو للعجب ويستدعي ربما دراسة وتحليلاً. تبعاً لما هو متاح قد يكون الأمر بسيطاً ولا يتطلب التحليل. لعل ذلك عائد إلى كون الجمهور العربي لا يشاهد ولا يطّلع سوى على السينما الإميركية، فتلك فقط هي التي تصله وبالتالي يغزوه فضول لمعرفة أفضل فيلم أميركي. ولكن ماذا عن النقاد والذين يكتبون عن السينما؟ صفحات الفايسبوك التي عجّت بالحديث عن الأوسكار غابت عنها في شكل شبه كامل أحاديث جوائز السينما الفرنسية التي أعلنت قبل ايام من الأوسكار! لمن يهمه الأمر فقد فاز فيها «ألهيات» فيلم الفرنسية من أصل مغربي هدى بن يمينة بثلاث جوائز، هي جائزة العمل الأول وجائزة أفضل ممثلة واعدة وأفضل ممثلة في دور ثان. وذهبت جائزة أفضل فيلم إلى «هي» لبول فيرهوفن، وأفضل إخراج للكندي كزافييه دولان عن «فقط نهاية العالم» وكانت إيزابيل هوبير الممثلة الأفضل. ونعرف أن إيزابيل هوبير لم تنل هذه الجائزة في الأوسكار كما كان متوقعاً في فرنسا على الأقل، بل ذهبت تلك إلى الأميركية ايما ستون. عودة إذاً الى الأوسكار في نسخته ال 89 وجائزة أفضل فيلم اجنبي التي ذهبت إلى الإيراني أصغر فرهادي. هذه هي جائزة الأوسكار الثانية لفرهادي بعد جوائز عالمية عديدة في مهرجان كان وغيره. فرهادي فرض سينماه وبات معترفاً به كأحد المخرجين المهمين عالمياً. لا أحد يشكك في مهارته واحترافيته في السرد. لكن هذا الفيلم الفائز ليس أفضل أفلامه وفيه شيء من التكرار وهو الفيلم الأول لفرهادي الذي ينتابني خلال متابعة بعض أحداثه شيء من تململ حتى لا أقول ملل، ويصاحبني شعور بأنني سبق ورأيت كل هذا، هذه المعالجة الاحترافية لقصة اجتماعية عائلية وهذا الجو المكاني المغلق وهذه النفوس الشكاكة والأحداث المتسارعة المرتبطة بحدث أساسي. هذا لايقلل من قيمة المخرج الإيراني بالتأكيد ولكنه بحث عن جديد لديه. المهم أن ترشيح الفيلم صاحبته حوادث كثيرة اهمها اصدار الرئيس الأميركي دونالد ترامب قراراً بوضع قيود على الهجرة للولايات المتحدة وبمنع مواطني سبع دول، معظم سكانها من المسلمين، من دخول البلد. إيران كانت إحدى تلك الدول. بدأت التنديدات في الأوساط الثقافية والسينمائية وغيرها في كل أنحاء العالم... فرهادي أعلن أنه لن يذهب لحضور الأوسكار مع أنه لم يكن ممنوعاً من الدخول احتجاجاً على قرارات المنع. لحقت به بطلة فيلمه ترانه علي دوستي وصرحت إلى الصحافة الأميركية: «أنا وائقة أن الولاياتالمتحدة الأميركية استفادت مرات عدة من المهاجرين الإيرانيين وكل هؤلاء الذين عملوا هناك وخدموا البلد». فرهادي قرر بكل ذكاء اختيار من يمثله في الحفل وتذكير الولاياتالمتحدة بالدور المهم الذي يلعبه المهاجرون فاختار مديراً سابقاً لبرنامج اكتشاف النظام الشمسي في «الناسا»، وأول امرأة ساحت في الفضاء والإثنان أميركيان من أصول إيرانية. قرأ هذان رسالة فرهادي بعد الفوز: «غيابي هو احترام للناس من بلدي ولهؤلاء القادمين من ست قوميات أخرى أهينوا بالقانون اللا إنساني الذي يمنع دخول المهاجرين للولايات المتحدة». سياسة وسياسة أيضاً أصدر مخرجو الأفلام الأربعة الأخرى على لائحة الترشيح النهائية لجائزة أفضل فيلم أجنبي، بياناً تضامنياً مع المخرج الإيراني ونددوا بقرارات ترامب...حقق فوز فرهادي ما أراده الجميع من تنديد بسياسة ترامب. بالطبع ليس «البائع» الفيلم الأول ولن يكون الأخير الذي يفوز لأسباب سياسية سواء في الأوسكار أو غيره. لكن لا يسعنا سوى القول مبروك لفرهادي وللسينما الإيرانية. وبانتظار فوز فيلم عربي حتى لو كانت الأغراض سياسية! وأجدني هنا أتذكر قولاً لمثقف وباحث فرنسي سألته في بداية شبابي، حيث في سورية الانبهار التام بالأوسكار ولاشيء غيره من الجوائز، عن توقعاته لذاك العام وماذا يعني له الأوسكار فأجابني: «الأوسكار؟ إنه وسيلتي الموثوقة للتعرف على الأفلام التي لا ينبغي لي أن اشاهدها»!