يبدو دوام عقوبة الإعدام في الولاياتالمتحدة الأميركية، وتنفيذها، مخالفة لمجرى تاريخي أوروبي وغربي عام قضى الى اليوم، بحجب مظاهر العنف في الحياة العامة، وتواريها عنها. وسايرت الأعراف والسنن الجزائية أطوار الأعراف والسنن الاجتماعية الأخرى. ففي مطلع الأزمنة الحديثة، كان الإعدام مشهداً يُدعى الناس الى حضوره و «الاتّعاظ» به، وكان يلازم تمثيلاً جسدياً قاسياً ومروِّعاً. والإعدام والتمثيل كانا جزءاً من الحياة الاجتماعية. ودعت النخب الثقافية في القرنين السابع عشر والثامن عشر السلطات الى إنفاذ الإعدام في المدانين في فناء السجن، والى نصب المقصلة أو المشنقة وراء سوره، وليس في ساحة المدينة المركزية والفسيحة. وشيئاً فشيئاً طويت فكرة معالجة الجريمة والمجرمين بواسطة العنف الجسدي جزاء الجرم. فعمدت معظم الدول الأوروبية الى إلغاء عقوبة الإعدام، وأبدلتها بالسجن والمراقبة والغرامات، وكلها عقوبات خالية من العنف الظاهر. وحل معيار الإصلاح والتأهيل محل معيار الاقتصاص أو الثأر من المرتكب، ونُشد العلاج والتربية. فخصصت للعقوبات مواضع على حدة مثل «أقسام» (زنازين) المخافر والسجون ومراكز التوقيف والمراقبة، بعيداً من الأنظار. وجردت العقوبات، منذ منتصف القرن العشرين، من صورها الجسدية الفظَّة والحادة. وألغيت، عملياً، عقوبات الجسد، وأبدلت بجزاء مجرد مثل الحرمان من الحرية أو مصادرة الموارد المالية. وتولى اختصاصيون وإداريون محترفون الإشراف على الجزاء المجرد والجديد. وتفترض المعالجة على هذا النحو تعليق نزعات الثأر والتشفي ولجم الانفعالات، وترفع الموظفين الجنائيين. وهي تفترض كذلك قبول الجمهور المناهج الجزائية و «العقلانية»، وكبته نزعاته الثأرية البدائية. ولعل السبعينات من القرن العشرين واتفاقها مع ازدهار دولة الرعاية في الولاياتالمتحدة، هي ذروة تمدين التاريخ الجزائي الغربي، قبل الانحسار المحافظ الذي أصاب مجرى هذا التاريخ وارتدَّ به الى طور عقابي كان تخطاه. والزعم أن انبعاث بعض الأفعال العقابية والجزائية المحافظة قرينة على سيرورة تخالف سيرورة التمدين، هذا الزعم يقتضي إثباته البرهان على قيام الدولة المركزية الوطنية واحتكارها العنف المشروع وتعاظم علاقات التضامن والتبادل والتماهي بين أفراد المجتمع. والحق أن أياً من هذه العوامل لم يصبه الضعف أو الوهن، وعلى الأخص في الولاياتالمتحدة. وتاريخ العقوبات الجزائية فيها، على رغم انفرادها من دون معظم الدول الغربية الأوروبية بالإبقاء على عقوبة الإعدام، لا يشذ عن تاريخها الأوروبي. فهي أخرجت مراسم الإعدام من الساحة والمشهد العامين الى فناء السجن، وقيدت بقيود حكومية قاسية إنفاذ الحكم وعزلته عن ملابساته الظاهرة والاجتماعية. وعلى هذا، فلا مسوغ فعلاً للزعم الآنف. والولاياتالمتحدة كانت سبّاقة في بعض وجوه التمدين الأوروبي. فمنذ القرن الثامن عشر قصرت ولاية بنسيلفينيا الإعدام على القتلة. وفي 1864 ألغت ولاية ميتشيغان العقوبة، ونفذت الأحكام في المدانين داخل أماكن مغلقة، في ثلاثينات القرن التاسع عشر. وتوسلت السجون الى انفاذ الموت بوسائل مزعومة «انسانية» مثل الكرسي الكهربائية (في 1880). والولايات التي ألغت الإعدام، وهي مينيسوتا وإيوا وماين وداكوتا الشمالية وفيرمون ورود آيلاند وفيسكونسين، الى ميتشيغان منذ أواسط القرن التاسع عشر، على خلاف الولايات الجنوبية والغربية، تحظى بسكان متجانسين، وبهيئات سياسية قوية. وهما عاملان راجحان في تمكين المسؤولين من إلغاء الإعدام على رغم ميول المواطنين المخالفة. ولا بد، في هذا السياق، من ملاحظة حال الثأر ومكانته في الولاياتالمتحدة اليوم. فهو واقعة اجتماعية تتمتع بسند قوي من الهيئات والمؤسسات، ويبطن طاقة نفسية وثقافية تسبغ على الإعدام قبولاً لا ينكر. فبعض الجمهور في عدد من الولايات لا يزال، في مواقف السيارات ومرائبها أمام السجون، يحتفل بالإعدام في أثناء انفاذه وراء السور. والقتل ثأراً ليس غريباً عن ثقافتنا الأميركية السائدة. فهو يلهم أفلام الغرب والروايات الشعبية وحكايات العصابات، الى المسرح الكلاسيكي والشكسبيري. وهو حقيقة مختبرة وماثلة في حارات السكن المتروكة واقتصاد المخدرات. والمحاكم ميدان مباح للنازع الثأري. فيحض محامي الدفاع المحلفين على توحيد حالهم بحال المتهم، بينما يصفه النائب العام بالهامشي الذي يهدد سلوكه الجماعة وبالخارج عليها. ولكن مصدر مقاومة الغاء الإعدام الأول هو الابنية السياسية والاجتماعية المحلية. فالنظام السياسي الاتحادي أو الفيديرالي الاميركي يجمع بين حكومة وطنية مقيدة وبين دول (ولايات) متأخرة تتمتع بسيادة حقوقية وقانونية فعلية. ويقود هذا الى ارتهان السياسيين والموظفين والقضاة أنفسهم الى ميول الجمهور الشعبوية والجارفة. فلا يسع النخب التحلل من ميول الجمهور الناخب وتحفظاته. وإلى هذا، فالجمهور الأميركي كثير التنوع المحلي والديني والاثني. والاختلافات والفروق تحول دون تبلور نخب متجانسة على شاكلة النخب وأهل «المناصب» في أوروبا. وتضعف المراتب العرقية صلة التماهي والتعاطف في صفوف الجمهور وبين جماعات السكان. وذلك على نحو ما حال التمييز العنصري والرق دون تبلور اختلاط السود والبيض، أفراداً وجماعات، بعضهم ببعض. والسكان المتفرقون أقواماً وأعراقاً يعسِّر عليهم تفرقهم تبادل التعاطف والاحساس بوحدة حال وعمومها. ولا ريب في أن التفاوت الاجتماعي بين الطبقات وفئات الدخل، وهو متفشٍّ في الولاياتالمتحدة، وضمور الهيئات الحكومية التي تضطلع بأعباء التضامن والتكافل، لا يردمان الهوة الواسعة بين المواطنين والسكان. وشيوع العنف الجنائي هو من سمات الجريمة في المجتمع الاميركي. وعدد جرائم القتل، قياساً على السكان وعلى الجريمة عموماً، مرتفع. ويعوق تمدين الحقل الجنائي، ويشيع في المجتمع الشعور بالقلق والخوف، ويطغى طغياناً ثقيلاً على النظرة الفاحصة والعقلانية التي لا غنى عنها في سبيل إقرار الغاء الإعدام. وشهدت الولاياتالمتحدة في منتصف الستينات وأوائل التسعينات زيادة حادة في عدد أعمال القتل، وعلى الأخص في ولايات الجنوب. والجنوب الأميركي هو معقل آثار العنصرية وبقاياها. وديموقراطية أبنيته السياسية هي الأضعف مقارنة بالولايات الاخرى. ونهج الادارة في الولايات نفسها هو الاقل مهنية واحترافاً. فولاية مثل كنتاكي أقامت على انفاذ احكام الإعدام علناً الى ثلاثينات القرن العشرين. واحتفظت تشريعات ولايات الجنوب بحكم الاعدام في جرائم غير القتل، مثل الاغتصاب والسرقة، الى الستينات المنصرمة. وأحجمت سلطات الولايات عن تعقب مرتكبي سحل السود وقتلهم من 1890 الى 1930. وأعمال القتل الجماعية هذه قوية الشبه بمراسم الاعدام والتعذيب في القرون الوسطى الاوروبية، تمثيلاً وفظاعة وإشهاداً أو مشهدية. والقرينة على وطأة ماضي العبودية والرق هي محافظة الولايات التي غلبت عليها العبودية على عقوبة الاعدام الى اليوم. ويبلغ انفاذ الاعدام أعلى متوسطاته في الولايات التي شاع فيها تولي الجمهور القتل بيده قبل 100 سنة. والولايات التي تتفشى فيها الفروق الاجتماعية الحادة، في الشمال والجنوب، هي نفسها الولايات التي تغلب عليها السياسة الشعبوية، وتتولى الحكم فيها أقل الحكومات مهنية واحترافاً، والاشد ميلاً الى الاحتفاظ بعقوبة الاعدام والى انفاذها. والدليل العكسي على دور هذه العوامل في كبح سيرورة التمدين الجنائي هو اقرار الحكومات الفرنسية والالمانية والبريطانية والكندية الغاء الاعدام من قوانينها الجزائية، في أوقات متفرقة، على رغم معارضة الجمهور، أو معظمه البالغ 65 الى 76 في المئة، الالغاء هذا. ولكن اتفاق الاحزاب، في الحكم والمعارضة، وانضباط الاقتراع البرلماني، أخرجا الالغاء من التجاذب والنقض. ولوا البنية الحزبية المركزية لما قيض للدول الاوروبية ومجالسها التشريعية اقرار الغاء عقوبة الاعدام. والدستور الاميركي يولي صلاحية سن القوانين الجزائية، والمبادرة اليه، الى الولايات وحكوماتها وهيئاتها، ويقدمها على الحكومة الاتحادية. فلا يسع الكونغرس بواشنطن الغاء عقوبة الموت الا من طريق تعديل دستوري. ولا يتحصل تعديل دستوري الا بغالبية موصوفة في الكونغرس يعضدها ابرام ثلاثة ارباع الولايات مشروع التعديل المقترح. وهذا عصي على الجمع. وهذه الحال من خاصيات التاريخ الدستوري الاميركي، شأن تكوين الدولة الاميركية. فالدولة – الامة الاميركية مقيدة منذ نشأتها وولادتها. وهي لم تفلح في تجريد السكان من السلاح، ولا من احتكار العنف أو اطفاء العنف بين الافراد والحؤول دون تنامي النفوذ الخاص والمحلي. واضطلاع الولايات بشطر كبير من السلطة يرجح كفتها على كفة الحكومة المركزية في ادارة السياسة الداخلية. فسبق ارساء الديموقراطية (الذكرية والبيضاء) قيام بيروقراطية دولة مركزية واشتداد عودها وتمكنها. وعلى هذا، اصطبغت الحكومة (الحوكمة) على الدوام بصبغة سياسية ومحلية فاقعة، ومنعت نشوء نخب وطنية متماسكة، موظفو الدولة جزء منها، على خلاف النخب الليبرالية الاوروبية النافذة. وتضافرت على الاحتفاظ بعقوبة الاعدام العلاقات العرقية غير المتكافئة، وأثر العنف بين الافراد وغلبة الابنية المحلية، على ما سبق القول. وبعض العوامل الجوهرية في الغاء الاعدام، مثل فصل الحياة الخاصة من الحياة العامة ومثل التستر على الوجوه الحيوانية والعضوية والبدنية من الاجتماع والحمل على الامساك، أطاحها انقلاب الثقافة الشعبية، وغلبة الاعلام الجماهيري والمشهدي (المرئي) على المجتمعات المعاصرة. وهتكت السنن الاعلامية الستر عن أدق دقائق الحياة الخاصة الجنسية والبدنية والمالية والصحية. وبعض هذه السنن قوّى الديموقراطية، ومعظمها الساحق التمس التسلية واتباع الفضول الماجن. * استاذ القانون والاجتماعيات في جامعة نيويورك، عن «فانتييم سييكل» الفرنسية، 4 - 6/2010، إعداد منال نحاس