كتبت في الثالث من هذا الشهر مقالاًَ بدأته بالقول إن «قوة ايران لا تخيفني. ضعف العرب يخيفني»، وانتقدت فيه تقاعس الدول العربية ازاء اسرائيل وعنصريتها وإخلاء الميدان للرئيس محمود أحمدي نجاد. ومع أن المقال انتقد ايران ورئيسها إلا أنه كان في الأساس عن الدول العربية. وتلقيت بعد ذلك رسالة طويلة من سياسي لبناني قارئ دافع فيها عن ايران، وهذا حقه، ونشرت بعض ما كتب ورددت عليه في 12 الجاري، ثم سافرت الى دبي ثم الأردن، وعدت الى لندن لأجد رسائل عن الموضوع نفسه وعن مواضيع أخرى ليست لها علاقة تقول حرفياً إنني «عميل صغير» لسورية وايران، أو انني «لن أرضى عن الميديا الغربية حتى تصبح ناطقة باسم حماس وحزب الله». كيف يمكن أن أكون الشيء وعكسه في مقال واحد؟ الديبلوماسية البريطانية مشهورة بأنها تمارس عمداً ما يصفه أخونا كلوفيس مقصود بأنه «الغموض الإيجابي»، والسياسي البريطاني قرأ لزميل له خطاباً سيلقيه في «أم البرلمانات» وعلّق الزميل بأن الخطاب فصيح صريح، إلا أنه لم يفهم هل هو مع القضية المطروحة أم ضدها. وشكره الأول بحرارة لأن هذا ما يريد فعلاً. لست من خريجي مدرسة الديبلوماسية البريطانية، ولا أملك الذكاء المطلوب حتى يتيه القارئ في ما أكتب، فأنا من انتاج العالم الثالث، و «على نيّاتي» جداً، وقد تعلمت ألا أكتب بلغة مصطفى لطفي المنفلوطي، أو طه حسين، ولا أستطيع لو حاولت، وإنما أن أكتب لغة سهلة صحيحة مع جمل قصيرة، أي لغة صحافة يومية مفهومة. ثمة قراء في منتهى الذكاء وعمق الإدراك والملاحظة، والواحد من هؤلاء هاوٍ يعلّق على مقال كتبه محترف، ثم يطلع بأفكار جديدة، أو يصحح أو يعدل في شكل يجعل الكاتب يفكر كيف فاتته كل هذه الآراء. غير أن القارئ الآخر الذي بدأت به ينطلق من موقف ثابت لا يحيد عنه، وهو بالتالي لا يقرأ المكتوب، وإنما ينطلق من عنوانه، أو عبارة فيه، ليبدي رأيه مع تسخيف كل رأي آخر، وأحياناً تخوين الكاتب، وكأن عند صحافي عربي ما «يخون» به لو أراد. أغرب مما سبق أنني كتبت في 26 شباط (فبراير) الماضي مقالاً في حوالى 60 سطراً دفاعاً عن دبي بعد الأزمة المالية العالمية، بدأته بقول الشاعر «جزى الله الشدائد كل خير/ عرفت بها عدوي من صديقي»، وحاولت أن أرد فيه على حملات الحاسدين وأن أثبت أن دبي قادرة على مواجهة الأزمة، واستشهدت بمعلومات غربية عن نجاحاتها، واختتمته بالقول: «الأزمة قد تكون مفيدة في رد أهل دبي الى الأرض بعد أن اعتقدوا طويلاً أن لهم أجنحة يطيرون بها... وجزى الله الشدائد كل خير...». وفوجئت وأنا في دبي الأسبوع الماضي بزملاء محليين يعطونني نسخة من مقال نشرته الزميلة «الإمارات اليوم» لكاتب يبدو من صورته المرفقة أنه شاب اختار بيت الشعر الذي نقلته عنواناً لمقاله، وعلق على مقال يؤيد دبي من زاوية رد أهلها الى الأرض، وقلب الفكرة رأساً على عقب. كلنا يريد أن يحلق في الفضاء، وبعضنا ربما اعتقد يوماً أنه فعل، ثم تعيده الدنيا الى الأرض. المقابل ينتصر لدبي وأهلها الذين لي صداقات مع كثيرين منهم، بمن فيهم الشيخ محمد بن راشد، ولا أدري كيف يسيء أحد قراءة نص واضح سهل، ولا أتصور أن الشاب الكاتب تعمّد الخطأ فلعلها كبوة. وأنتقل الى موضوع آخر هو زيارة البابا بنيديكتوس الأراضي المقدسة، فقد جاءت وأنا على سفر، ولم أكتب عنها وإنما جمعت ملفاً عنها سأعود اليه اذا قامت مناسبة، مع ذلك تلقيت رسائل كثيرة عن زيارة البابا أختار منها اثنتين. الأخ ناصر طباع يقول إن عدداً من شباب العشائر المسيحية الأردنية اتصل به لتنظيم تظاهرة احتجاج ضد تصريحات البابا المنحازة الى العدو الإسرائيلي. وبصراحة، أجد أن البابا كان متعاطفاً مع الفلسطينيين، وتحدث عن معاناتهم، وحقهم في دولة مستقلة، وانتقد جدار الفصل العنصري. وهو كان تحت ضغط شديد من الإسرائيليين الذين رددوا له تهمة كاذبة عن الخدمة في شبيبة هتلر، وهاجموا من جديد رفعه الحرم الكنسي عن مطران ينكر المحرقة. وهكذا فقد وجدت تصريحاته جيدة، أو أفضل مما توقعت. البروفسور مازن قمصية بعث اليّ برسالة عما يريد من البابا، تشرح بدقة أكاديمية معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، وكيف تهدم البيوت ويمارس العزل والفصل. أريد أن اتجاوز الرسالة للحديث عن الدكتور قمصية نفسه، فقد تابعت عمله منذ كان يعلّم في جامعتي يال وديوك في الولاياتالمتحدة وحتى انتقاله الى الأراضي الفلسطينية، فهو مفكر ومناضل، وجهده في رصد الجرائم الاسرائيلية ونشاط اللوبي المؤيد لها من أرقى مستوى ممكن، وقد رشحت مازن قمصية يوماً لجائزة، وسأعود الى ترشيحه، فهو مفكر من أرقى مستوى، وتحتاج اليه القضية الفلسطينية وكل قضايا العرب.