ينطوي التوتر الحالي في العلاقات الأميركية – الباكستانية على أبعاد عدة، تتعلق في مجملها بمسار الحرب في أفغانستان. أميركياً، تتهم واشنطن إسلام آباد ليس فقط بالتقاعس عن محاربة مقاتلي طالبان الباكستانية في الحزام القبلي المحاذي للحدود مع أفغانستان وعدم وفاء القيادة الباكستانية بالتزاماتها في هذا الشأن، بل بالتواطؤ معهم وغض الطرف عن استهدافهم شحناتِ الإمدادات وصهاريج الوقود الأميركية المتجهة إلى أفغانستان، بل وتشجيع طالبان الأفغانية على زيادة هجماتها ضد القوات الأميركية في إطار «لعبة مزدوجة» تقوم بها الاستخبارات الباكستانية، حسبما ورد في تقرير سري نشره موقع «ويكيليكس» في تموز (يوليو) 2010. وباكستانياً، تتهم إسلام آباد واشنطن بأنها لا تأخذ المصالح الباكستانية في أفغانستان بعين الاعتبار، بل تزيد الطين بلة باستباحة الطائرات الأميركية الأراضيَ الباكستانية إلى الدرجة التي وصلت إلى قصف جنود باكستانيين وقتل ثلاثة منهم في 30 أيلول (سبتمبر) 2010. هذه الاتهامات المتبادلة ليست طارئة، ولا أسرار جديدة فيها، لكن ربما يكون الجديد في التوتر الحالي بين واشنطن وإسلام آباد، هو أنه يسلط الضوء على نقطة حساسة لم تحظَ بالاهتمام الكافي حتى الآن، ألا وهي الصعوبة الشديدة التي تواجه الولاياتالمتحدة والحلف الأطلسي في إيصال الإمدادات إلى أفغانستان. فعلى إثر قيام باكستان بإغلاق ممر «خيبر» الذي تستخدمه القوات الأميركية في إيصال إمداداتها من الوقود والدعم اللوجستي إلى قواتها في أفغانستان احتجاجاً على مقتل جنودها الثلاثة، سارع كل من الأمين العام لحلف الناتو والسفيرة الأميركية في إسلام آباد إلى تقديم اعتذار رسمي على هذه الحادثة وناشدا بإعادة فتح طريق الإمدادات، كما قدم رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مايك مولن اعتذاراً مماثلاً، واعداً بعدم تكرار هذه الحوادث مرة أخرى. ذلك أن إسلام آباد لمست وتراً حساساً ونقطة ضعف كبيرة لدى كل من الولاياتالمتحدة والناتو. إذ يمر عبر الأراضي الباكستانية نحو 80 في المئة من إمدادات الوقود والدعم اللوجستي إلى القوات الأميركية وقوات حلف الناتو في أفغانستان، يتحرك نحو خمسة آلاف صهريج شهرياً من ميناء كراتشيالباكستاني على ساحل بحر العرب إلي أفغانستان، في رحلة يبلغ طولها زهاء 1800 كيلو متر عبر المناطق الجبلية الوعرة بين باكستانوأفغانستان (تكلف حمولة الشاحنة الواحدة نحو 7 آلاف دولار). فيما تمر ال 20 في المئة الباقية من خلال طرق أبعد مسافة وأكثر تكلفة وأطول زمناً عبر جمهوريات آسيا الوسطى شمال أفغانستان. هذه الصعوبات اللوجستية ناتجة بالأساس من الموقع الجغرافي لأفغانستان. فهي حبيسة في قلب اليابسة الآسيوية الهائلة، بعيدة من البحار والمحيطات، بل والأنهار الكبيرة، لا يمكن الوصول إليها إلا عبر البر والجو، وهما مساران لا تجعل طبوغرافية هذا البلد منهما أمراً ميسوراً على كل حال، على رغم التقدم الهائل في وسائل النقل. فالطبيعة الجبلية الوعرة لأفغانستان ووديانها شبه المغلقة بالقمم العالية، ومناخها القاري القاسي، تشكل بيئة غير مؤاتية لدخول هذا البلد، فضلاً عن الاستقرار فيه. فأفغانستان تبدو مُعلّقة في «سقف العالم» ومُعتقلة فيه، معزولة عن جيرانها (والعالم) وعازلة بينهم، فموقعها هضبة مرتفعة تطل على شبه القارة الهندية في الجنوب وعلى آسيا الوسطى والقوقاز في الشمال وعلى الصين في الشرق وعلى إيران في الغرب. وطبيعة أفغانستان قاسية إلى درجة جعلت اللورد كيرزون نائب الملك البريطاني في الهند أوائل القرن العشرين لا يرى داعياً لاحتلالها، فمن الأفضل لبريطانيا شراؤها. وفي الوقت الحالي يشكل موقع أفغانستان تحدياً جدياً للاستراتيجية الأميركية الحالية في أفغانستان، ليس على الصعيدين العسكري والاستراتيجي، بل أيضاً على الصعيد اللوجستي (الإمداد والتموين)، بخاصة بعد قرار مضاعفة القوات في أواخر آذار (مارس) 2009 لتبلغ نحو 68 ألف جندي، أو بعد قرار زيادة القوات بنحو 30 ألف جندي في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 2009. فبعد أربعة أيام من خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما في شأن استراتيجية زيادة القوات في أفغانستان، أقرّ وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس بأن إرسال بلاده 30 ألف جندي إضافي إلى أفغانستان «يمثل تحدياً أكبر منه في العراق، بسبب عدم امتلاكنا البنية التحتية نفسها الموجودة في العراق، ويجب إرسال التعزيزات جواً». إذ يمتلك العراق ميناءً وشبكة طرقات جيدة، فيما احتضنت الكويت قاعدة عسكرية أميركية ضخمة، في حين لا تطل أفغانستان على أي بحر وشبكة طرقاتها البرية في حال يرثى لها، كما تزيد الجبال في شرق البلاد صعوبة المواصلات، ما يحتم استخدام مروحيات، يؤكد القادة العسكريون الأميركيون أنهم يعانون نقصاً كبيراً في أعدادها. وعلى رغم أن أوباما تعهد بالشروع في سحب القوات الأميركية في صيف 2011، فإن بعض منشآت تخزين الوقود لن يكتمل إنشاؤها إلا في ذلك الوقت. وفي هذا الإطار، قال وكيل وزارة الدفاع لشؤون المقتنيات والتكنولوجيا واللوجستيك آشتون كارتر، في منتصف كانون الأول (ديسمبر) 2009: «إن دخول أفغانستان صعب للغاية لأنه بعد القارة اللاتينية، فإن أفغانستان هي أكثر مكان قسوة وصعوبة، بخصوص الإمدادات اللوجستية، ليخوض فيه المرء معركة»، مضيفاً: «إنها بلاد يحيط بها البر من كل الجهات وتضاريسها وعرة، وشبكة الطرق فيها أقل بكثير مقارنة بالعراق. كما أن عدد مطاراتها أقل، وبيئتها الجغرافية مختلفة تماماً». ووصف نائب أميرال البحرية آلان تومسون، الذي يدير وكالة الشؤون اللوجستية في وزارة الدفاع، العمليات في أفغانستان بأنها «أصعب مهمة لوجستية نواجهها منذ الحرب العالمية الثانية». فعلى عكس العراق الذي يسبح فوق بحيرة من النفط والغاز، فإن أفغانستان تفتقر إليهما في شدة، في حين أن احتياجات القوات الأميركية في أفغانستان منهما ضخمة جداً، حيث يشير مكتب محاسبة الحكومة إلى أن نحو 300 ألف غالون من وقود الطائرات يتم إيصاله يومياً إلي أفغانستان، إضافة إلى الديزل وغازولين المحركات. وفي حزيران (يونيو) 2008 فقط ذهب 6.2 مليون غالون من الوقود إلى العمليات الجوية والأرضية، بينما ذهب 917 ألف غالون إلى أنشطة الدعم في القواعد مثل الإضاءة وتشغيل أجهزة الكومبيوتر والتسخين والتبريد. وبحسب دراسة حديثة لمؤسسة «ديلويت أناليسيس»، فإن لواء مقاتلاً من سلاح البحرية يحتاج في المتوسط إلى نحو 500 ألف غالون وقود يومياً، وكل قاعدة من ال 100 قاعدة العاملة في أفغانستان تحتاج يومياً إلى 300 ألف غالون من الديزل. وفي العموم تبلغ تكاليف نقل الوقود إلى أفغانستان نحو 400 دولار للغالون الواحد، في حين تبلغ تكاليف النقل في العراق نحو 40 دولاراً للغالون الواحد. وتبقى القوات الأميركية معتمدة حالياً على إمدادات الشاحنات التي تقطع مسافات طويلة وتسلك طرقاً ملتوية وخطيرة في الجنوب. فبمحاذاة هذه الطرق الجبلية الوعرة، تنتشر أعمال الخطف أو هجمات مقاتلي طالبان، بخاصة في «ممر خيبر» على الحدود بين باكستانوأفغانستان. والأهم من ذلك أن الولاياتالمتحدة كانت ولا تزال ترى في رجال الاستخبارات الباكستانيين السابقين مصدراً لعدم الثقة في ظل الشكوك التي تحدثت عن تورط بعضهم في تقديم معلومات لمقاتلي الحركة بخصوص طرق الإمداد. وبما أن الجيوش تجري على بطونها، لم تجد الولاياتالمتحدة مفراً من استبدال هذه الممرات بمسارات أخرى، ففي كانون الثاني (يناير) 2009، زار قائد القيادة الوسطى الأميركية الجنرال ديفيد بترايوس جيران أفغانستان على حدودها الشمالية، قرغيزستان وكازاخستان وتركمانستان وطاجيكستان، حيث توصل لاتفاق مع روسيا ودول آسيا الوسطى في شأن طرق إمداد جديدة لقوات التحالف تمر بتلك الدول إلى شمال أفغانستان. وعلى رغم كل التكهنات ما كانت موسكو لتقبل بهذه الخطوة من دون الحصول على ثمن سياسي ما من واشنطن. لكن التكلفة السياسية التي قد تضطر واشنطن لدفعها إلى موسكو لا ترتقي - مهما علت - إلى مستوى التكلفة المادية والبشرية الكبيرة المسددة في أفغانستان. غير أن إذا كانت هذه الطرق أكثر أمناً، فإنها بالمقابل أبعد مسافة وأطول زمناً وأكثر تكلفة اقتصادية. إذ يجلب المتعاقدون مع البنتاغون المنتجات النفطية المكررة من روسيا وآسيا الوسطي عبر أنابيب النفط، أو من أذربيجان عبر بحر قزوين، قبل نقل المنتجات إلي شاحنات الصهاريج، وهو ما يعني القيام بترتيبات النقل والعبور عبر أوزبكستان أو تركمانستان. وتُشحن المنتجات النفطية المكررة إلى مسافة تناهز الألف ميل عبر القطار والشاحنة من مصفاة في تركمانستان أو عبر عبارة وعربة علي السكك الحديدية من أذربيجان إلى القواعد الأميركية في أفغانستان. ويستغرق وصول الوقود إلى الحدود الأفغانية نحو عشرة أيام، وهناك يتم تحميله على متن شاحنات صهاريج ويمكن أن يستغرق وصوله إلى أحد مراكز الوقود التابعة للقوات الأميركية نحو أربعة أيام. علاوة على ذلك فإن قوات التحالف والقوات الأفغانية تركز في شكل مبالغ على تأمين خطوط الإمدادات وتحاشي التعرض إلى تفجير العبوات الناسفة من طريق مجهودات تكتيكية بدلاً من محاربة التمرد. وتبعاً لذلك فإن الكثير من القوات، بخاصة الأفغانية، تنتشر بمحاذاة الطريق الدائري الذي يحيط بالبلاد، وهذه المواقع الثابتة تتسبب في تبديد القوات وبالطبع فإن القوات الأميركية يجب أن تكون لديها القدرة على المناورة والتحرك بمحاذاة المواقع الثابتة. ولعل هذه الصعوبات دفعت واشنطن إلى التفكير في ما لا يمكن التفكير فيه. ففي 12 آذار (مارس) 2009، ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن مسؤولين عسكريين أميركيين يعكفون على استكشاف طرق بديلة لنقل الإمدادات إلى القوات الأطلسية والأميركية والأفغانية في أفغانستان حتى عبر إيران. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين قولهم إن الولاياتالمتحدة لا تفكر في إرسال إمدادات أميركية عبر الأراضي الإيرانية. لكن طريقاً مثل هذا يمكن مناقشة أمره من خلال محادثات ثنائية خاصة بالإمدادات تجري على الأسس الحالية بين أعضاء في الحلف الأطلسي وطهران. وذكرت الصحيفة أن مسؤولي البنتاغون والأطلسي يفكرون في طرق عبر إيران من ميناء شاباهار على بحر العرب إلى طريق جديد تقيمه الهند في غرب أفغانستان. لكن حتى هذه اللحظة لا يوجد ما يشير إلى إمكانية تنفيذ هذه الأفكار على أرض الواقع، بخاصة في ظل التصعيد المتبادل بين إيرانوالولاياتالمتحدة على خلفية تطورات المشروع النووي الإيراني، فيما تبقى باكستان هي المنفذ البري الرئيسي نحو أفغانستان حتى الآن، ويظل المرور عبر الأراضي الروسية هو أقرب البدائل المتاحة للقوات الأميركية والغربية نحو أفغانستان حتى لو كان ذا تكلفة اقتصادية عالية ومساومات سياسية كبيرة على صعيد العلاقات الروسية – الأميركية وقضاياها المتشعبة. * كاتب مصري