«لا فضائية تستطيع البقاء والاستمرار من دون ترجمة فورية»... تلك هي القاعدة التي أصبحت ضرورية في عالم يشهد المحن بشتى لغات الأرض، وعلى الفضائيات أن تكون مستعدة لترجمتها إلى لسان من تتوجه إليهم. وعلى رغم أن القنوات تغفل اسم المترجم الفوري وصورته، وكأن المترجم الذي، على ما يقال، «كان يُعطى له ما يساوي وزن الكتاب المترجم ذهباً»، قد غدا موظفاً من دون أي امتياز. لكن الحقيقة أن الترجمة الفورية تعد من أصعب المهمات، فهي تتطلب، فضلاً عن إتقان اللغتين، تركيزاً شديداً واهتماماً عالياً وحرصاً وحذراً، لأن اللغة ليست مجرد مفردات صوتية محايدة، بل هي وعاء ثقافي وحضاري هائل، ولكل لغة بيئتها وتاريخها وخصوصيتها ونظامها وقواعدها... كل ذلك يضع أمام المترجم الفوري عوائق كثيرة. بعضهم يتغلب عليها بالنباهة وسرعة البديهة والثقافة الواسعة، فينقل معاني الكلمات وظلالها وأبعادها وتلاوينها، والبعض الآخر يكتفي بالترجمة الحرفية، فيتلكأ ويتعثر، لتضيع معاني الخطاب ودلالاته خلف الركاكة اللغوية التي لا تقدم شيئاً للمستمع - المشاهد سوى التشويش على لغة المتكلم الأصلية. وعلاوة على هذا الاستنتاج الملحوظ في تجربة الفضائيات العربية، فإن ثمة طرائف تقع في مجال الترجمة الفورية بصورة عامة، فكيف لمترجم أن ينقل، مثلاً، عبارات رائجة في لغة الضاد، مثل «أثلج صدري»، أو «أهل مكة أدرى بشعابها»، أو «زاد الطين بلة» أو «ثالثة الأثافي»؟... وبديهي أن اللغات الأخرى لا تفتقر إلى عبارات من هذا النوع الذي يرمز إلى الموروث الثقافي لهذا الشعب أو ذاك. ومهما بدا المترجم الفوري فطناً، يقظاً، فإن الهفوات ستقع من دون شك. والطرافة لا تتوقف عند هذا الحد، ذلك أن لكل خطاب نبرة خاصة تدعم مضامين ما يتفوه به الخطيب والمتكلم، فتخيل مثلاً أن زعيماً يرغي ويزبد (بالمناسبة كيف سيترجم هذين الفعلين؟!) ويهدد بالقضاء على الإرهاب بلغة صارخة غاضبة، ثم يأتي المترجم الفوري لينقل فحوى الكلام بنبرة هادئة. هنا، يخطر في البال سؤال بريء حول كيفية الترجمات الفورية لخطابات حسن نصر الله الحماسية ذات النبرة العالية إلى لغات أخرى؟ وإذا كانت المؤتمرات والمناسبات الفنية والفكرية والاجتماعية والترفيهية، تستوعب وقوع أخطاء في الترجمة الفورية، فإن ما لا يمكن غفرانه وقوع أخطاء لدى ترجمة خطاب لزعيم سياسي، فذلك قد يفضي إلى سحب سفراء، وسقوط حكومات، وتأجيج الصراع بين الدول. على رغم الطرائف المحببة أو المؤذية، وعلى رغم العوائق والأخطاء والعقبات، ستظل الفضائيات تستعين بالمترجمين الفوريين، فلا بديل آخر لديها في سبر جغرافيا العالم المعقدة، والناطقة بألف لغة ولغة إلا باللجوء إلى القواميس، إذ إن لغة الصورة، التي تجمع الفضائيات، تتطلب نصاً منطوقاً كي يكتمل مشهد هذا العالم المضطرب.