انتقل الأنس ومعه البهجة، من الاختلاط بالأقارب، إذ كان الحديث يطيب مع أبناء العمومة والخوؤلة، إلى الاختلاط بالغرباء، أو الأباعد من الناس، وهذا الأمر يُذكرنا بمقولة عمر بن الخطّاب الشهيرة، حين نصح الأقارب بالسكن بعيداً عن بعضهم البعض، والاكتفاء بالزيارات الدورية المتباعدة، لكننا هنا نتساءل، لماذا يستمتع الكثير منا بالحديث والنقاش مع الأباعد، بدلاً من الأقارب؟ مخالفين بذلك المنطق، والعصبية التي تبقى من أبرز سمات العرب، مهما حاولوا إنكارها، لماذا يحدث هذا؟ قد يكون السبب الرئيس، أن الغريب حينما يحدثك أو يمازحك، وبالمصادفة، يلمس خلال حديثه وتراً حساساً في ماضيك، تجد له أوسع الأعذار، كونه لا يعرف تفاصيل سيرتك الذاتية، وبالتالي فهو لا يمكن أن يقصد مضايقتك بحديثه ذلك، بعكس القريب الذي تحمل أنت وإياه الكثير من التجارب المشتركة، ويطغى على تفكيركما سوء النية عند ذكر أي إشارة تلمح إلى أي شيء سلبي في ماضيكما السحيق. على سبيل المثال، لو تحدث زيد لقريبه عمرو عن فضيلة التسامح، وأنه شيمة طيبة للأقوياء الذين يستطيعون إلحاق الضرر بخصومهم، لكنهم يعفون عن طيب خاطر، مع قدرتهم الواضحة على الانتقام والثأر لأنفسهم، وكان عمرو قد عفا قبل عشرة أعوام عن أحدهم، فلا شك بأن عمرو في الغالب سيقول - على الأقل في نفسه - «لابد أن هذا الخبيث يحاول مضايقتي بحديثه هذا...»، وقد يتطور الأمر بعمرو لأن ينتصر لنفسه، فيبحث في سيرة زيد عما يمكن التلميح إليه سعياً لمضايقته، وسينتهي النقاش بين الاثنين، في أفضل الأحوال، بألم نفسي لكل منهما، وما لهم من ذنب إلا طغيان سوء النية على تحليلاتهم لما يسمعون، ووجود التاريخ المشترك، الذي يكرس فرضية سوء الظن. alotaibi-nafel.maktoobblog.com