كم عدد المخرجات العربيات اللواتي يبرعن في الدراما؟ نجزم بأنهن لسن كثيرات ولا ذوات حضور قوي إلى جانب المخرجين الرجال. في المغرب الأمر يختلف قليلاً، وذلك لوجود امرأة شابة استطاعت أن تأخذ مكانة مهمة خلال العشرية الأخيرة. هي فاطمة بوبكدي، وقد ظهر اسمها وبرز كأحد الأسماء في مجال الإخراج الدرامي التلفزيوني، وتشكل هي جزءاً مهماً من الحضور الأنثوي في الدراما الغربية إلى جانب المخرجة العميدة فريدة بورقية. هذه الأخيرة التي أخذت عنها بعض الحرفة كمساعدة إخراج في مسلسل «الدار الكبيرة» خلال التسعينات. وكان هذا أحد الأبواب التي ولجتها بوبكدي كي تتعلم، وذلك إلى جانب العمل كسكريبت في أفلام الإنتاج الأجنبي الكثيرة التي تصور في المغرب، والعمل كمساعدة إخراج مع مخرجين سينمائيين مغاربة كحسن بنجلون ومجيد رشيش. لقد تعلمت الوقوف خلف الكاميرا من خلال معايشة المخرجين والتقنيين والممثلين في بلاتوهات التصوير الخارجية والداخلية، أي في التطبيق العملي لحرفة الإخراج. لكن الأهم الذي بجب الوقوف عليه هو أن فاطمة بوبكدي بدأت مسارها الفني ممثلة مسرح برفقة أخيها المؤلف المسرحي وكاتب السيناريو إبراهيم بوبكدي الذي يعد أباها الروحي في الميدان الفني منذ طفولتها الأولى وشريكها في جل الأعمال. لكن فاطمة ما لبثت أن حلقت وحدها واختطت مساراً متميزاً سواء من خلال الكتابة الخاصة أو من خلال المواضيع التي تتناولها في أعمالها الدرامية التلفزية، وهي نتاج تجاربها السابقة. ففي الكتابة والإخراج تعتمد المخرجة تصوراً تشويقياً يعتمد على تعدد الشخوص وعلى الإكثار من زوايا الالتقاط لكن مع عدم تغيير زوايا النظر التي تظل واحدة، وتنويعها لخلق حيوية كبيرة في تقديم الحكايات. وقد بدأ هذا جلياً منذ شريطها الأول الذي أخرجته عام 1999، «بوابة الأمل» الذي يتحدث عن ظاهرة الإعاقة الجسدية وهو ما شكل ريادة في الموضوع. سيتأكد الأمر من خلال الفيلم التلفزيوني الثاني «تيغالين» (إنتاج 2002) الناطق باللغة العربية الفصحى، حيث مجال الحكاية الشعبية يوفر زخماً من الشخصيات والمواقف والحالات الدرامية التي بإمكانها جلب المتلقي وخلق المتعة للجميع. وهو يتناول قصة مدينة بربرية قديمة غمرتها المياه، وبنت المخرجة حولها قصة حب وغيرة وتحد. وقدم في أجزاء أربعة واتسم بتشبهه بأجواء الدراما البدوية السورية. ذات الأمر يلاحظ في شريط «الكمين» بتوظيفه للحكاية الفانتازية والأجواء غير الواقعية كما ارتأت أن تضفي عليهما معاً مسحة غرائبية، ما غيّر من مألوف المشاهد المغربي. وذلك ما سيتأكد لاحقاً عبر المسلسلات التي ستعرف نجاحاً كبيراً واستقطاباً عاماً غير مسبوق كثيراً. توظيف التراث وهذا ظهر جلياً وفي شكل متقن في عمل «عائشة الدويبة» الذي سيكرس نجومية الممثلة القديرة سناء عكرود ويجعل اسم الفيلم والدور يلازمانها منذ ذلك الوقت. وهو دور فتاة ذكية وذات دهاء فريد تقاوم بالخداع والتحايل من أجل أن تحمي عائلتها وأخواتها الفقيرات من تسلط الحاكم والمتربصين. ويشكل توظيف التراث هنا مجالاً للتسويق الحكائي بعيداً من كل انخراط في مشاكل وهموم اللحظة والمجتمع، ما يجعل الطابع الأخلاقي والوعظي هو الهاجس الأساس، لكن من دون أن يفتقد المتعة المطلوبة. ونفس الثيمة والفضاءات واللجوء إلى التراث يتحقق في مسلسل «أمود» مع التأكيد على المرجعية الأمازيغية مرة أخرى من جانب الموضوعات، عبر حكاية شهيرة تعد إلياذة محلية لأنها تحكي قصة الشاب «حمو أونامير» الذي يعيش تباريح حب ومغامرات شبيهة بحكايات متوسطية أخرى، وقد تغنت به العديد من الأغاني الأمازيغية. الجو العام ذاته يقدمه عمل «سوق النسا» الذي يحيل على بيت شعري زجلي معروف للشاعر الشعبي القديم عبد الرحمان المجدوب، لكن الفيلم يقصد التطرق لحكايات ما يسمى ب «حروب النساء» أي حيلهن في المواقف الحياتية والاجتماعية. وهذه الحروب يريد بطل العمل أن يتعلمها قبل أن يقدم على الزواج بعد أن أتم تعليمه في القرآن وصار عالماً دينياً. بعد أن تمكنت المخرجة من آلية إخراج الأفلام التلفزيونية والمسلسلات المجزأة والطويلة انتقلت الى إخراج المسلسلات الطويلة الأكثر تشويقاً وتنويعاً مع الحفاظ على النهل من التراث وتوظيف المجال القروي واللهجة البدوية، وهو ما تأتى عبر السلسلة الشهيرة «حديدان» عن بطل شعبي أسطوري مغربي يعد المعادل لجحا المشرقي. وفيها نتابع مقالبه وحيله وقوة دهائه في محيط عائلته وجيرانه ورفقة أصدقائه وأعدائه وحكام البلد. وقد أظهرت بوبكدي هنا وجهاً تلفزيونياً جديداً كان مغموراً ومعروفاً في المجال المسرحي فقط، وهو الممثل كمال كاظمي، والذي صار «حديدان» في مخيلة المشاهد لأدائه المقتدر والجاذب. والحق أن هذا المسلسل خلق ظاهرة فنية وتلفزيونية بما استطاع أن يحقق من نسبة مشاهدة عالية غير مسبوقة وصلت رقم الأربعة ملايين مشاهد للحلقة الواحدة، من لدن جميع الفئات الاجتماعية ومن مختلف الأعمار، وكرس بالتالي قوة حضور المخرجة فاطمة بوبكدي في مجال الدراما التلفزية ليس كامرأة بل كمخرجة فقط لها وجهة نظر خاصة في مجال بكر وغير مطروق كثيراً وهو توظيف التراث كما أشرنا سالفاً. أسئلة... أسئلة وككل ظاهرة فالأسئلة تتناسل إزاءها، وإزاء ما تقدمه للمشاهد. هل تصب في خانة المتعة أم الإفادة أم التوعية؟ وهل ما تقدمه يساهم في شكل صحيح في تنمية الذوق والرقي بالوعي الجمعي والفردي؟ كما يطرح سؤال الجدوى من توظيف التراث في شكل محايد، وتوظيف المعطى الحكائي الأمازيغي بالعربية، عربية البداوة أو الفصيحة، ومن دون اللغة الأمازيغية الأصل هل يعضد العمل أم ينقص منه؟ هي أسئلة كبيرة ليست للتداول حول أعمال تلفزيونية غير معهودة، لكن طرحها نابع من كون العمل الفني بالمغرب كان دائماً عرضة للنقد والسؤال الكبير، وذلك لكون مجال الإخراج والتشخيص الفنيين في المغرب من نتاج مدرسة مسرح الهواة من جهة ومن نتاج حركة الأندية السينمائية من جهة أخرى، الشيء الذي كان دائماً يجعل العمل الفني التزاماً خاصاً بالهم المجتمعي والسياسي العميقين. لكن هل يمكن أن يستمر الحال هكذا؟ لا نظن، فالعصر حالياً هو عصر يروم المتعة أي قضاء وقت مشاهدة ممتع. وفي هذا الإطار يمكن وضع تجربة بوبكدي في مكان مميز.